
ضربة قلم
في كل مرة يطل علينا إدريس لشكر، يُثبت لنا أن السياسة ليست سوى مسرحية طويلة، أبطالها لا يحتاجون إلى قناعات، بل إلى قدرة خارقة على تغيير ألوانهم وفق الحاجة. هو ذلك السياسي الذي لا يعرف معنى الحسم، ولا يتخذ موقفًا إلا إذا كان يحمل من الالتباس ما يكفي لفتح عشرات التأويلات، ويبقى السؤال الأبدي: مع من هو؟ أو بالأحرى، من الذي يمكن أن يمنحه “توصية مضيئة” تنير طريقه نحو مستقبل سياسي، يبدو أنه يخطط له بحذر شديد؟
عندما يتحدث عن فلسطين، يبدو وكأنه يمارس رياضة السير على الحبال الرفيعة. يدين الاحتلال “بكلمات محسوبة”، لكنه لا يخطو خطوة واحدة نحو موقف صريح يزعج أصحاب النفوذ الحقيقيين. يدعو إلى “الحوار”، ولكن أي حوار؟ ذاك الذي يحدث في قاعات مكيفة حيث تُصاغ البيانات بطريقة تجعلك تتساءل: هل هذا تضامن أم تواطؤ مقنّع؟
حين قال لشكر بلهجته الواثقة: “لا نريد المزايدة في القضية الفلسطينية!”، ظنّ أنه أسكت الجميع بجملته الفاصلة. لكن في الحقيقة، هذا التصريح أكثر هشاشة من بيان سياسي صادر عن حزب لم يعد يملك حتى شعبية كافية في المجتمع المغربي ليُسمع صوته بجدية. ماذا تعني “المزايدة” هنا؟ هل أصبح الدفاع عن فلسطين نوعًا من “البروباغندا” الحزبية التي يتسابق فيها السياسيون على تسجيل المواقف؟ أم أنه ببساطة يرى أن فتح هذا الملف “حسّاس جدًا” في وقت يعمل فيه على تثبيت أقدامه في موقع يضمن له مستقبله السياسي… ولو بتوصية دولية غير مباشرة؟
دعونا لا ننسى أن إدريس لشكر ليس مجرد “زعيم حزب”، بل هو لاعب ماهر في لعبة توازنات دقيقة، يدرك جيدًا أن التصعيد ضد إسرائيل لا يخدم مساره “المتزن” نحو تحقيق “طموحاته الخاصة”. لا نريد أن نتهم الرجل بالهرولة، لكن لغة الجسد لا تكذب، ونبرة التصريحات التي تبرر وتلطف وتُسوّق لكل شيء على أنه “ضرورة سياسية”، تجعلنا نتساءل: هل نحن أمام موقف وطني، أم أمام استثمار سياسي في ملف دولي مربح؟
حين تحدث عن اتفاقيات التطبيع، حاول لشكر أن يظهر بمظهر القانوني الدقيق، قائلًا “هذه الاتفاقيات لم تُعرض على البرلمان!”. يا له من تعليق عبقري! فجأة، أصبح الرجل نصيرًا لاحترام المساطر الدستورية، كأنه كان سيعارض الاتفاق لو مُرر داخل قبة البرلمان! وكأن المعضلة ليست في طبيعة الاتفاق، بل في الإجراءات التي تمّت به. هل يريد منا أن نصدّق أنه لم يكن يعلم؟ هل يتقمص دور المتفاجئ؟ أم أن هذا مجرد تمرين آخر في لعبة السياسة الرمادية التي يُتقنها؟
ولكن مهلاً، ربما هناك طريقة أخرى لقراءة المشهد… ربما لم يكن لشكر منزعجًا لأن الاتفاق تم في الكواليس، بل لأنه لم يكن جزءًا من تلك الكواليس! فالمشكلة ليست في أن “التطبيع تم”، بل في من قام به، وكيف، وبأي مقابل!
إدريس لشكر يُدرك تمامًا أن الدخول إلى دوائر النفوذ ليس متاحًا للجميع. هناك رجال ظلّ يتحكمون في مصائر السياسيين، وهناك لقاءات تتم خارج الأضواء، حيث تُرسم الخطوط الحمراء والخضراء لمن يريد أن يكون لاعبًا مؤثرًا في المشهد. فهل كان يسعى إلى تموضع جديد يتيح له دورًا أكبر في المستقبل؟ هل كان يبحث عن “نافذة” تعيد إحياء مشروعه السياسي بعد أن بدأ نجمه في الأفول؟
الإشارات التي يرسلها ليست مجرد تصريحات عابرة، بل رسائل مُشفرة لأطراف معينة، مفادها أنه “رجل دولة”، يفهم لغة التوازنات الدولية، ولا يرغب في إحراج “شركاء المغرب”، بل على العكس، هو مستعد للتعامل مع كل الملفات وفق “مقاربة متوازنة”! لكن، هل تعني هذه المقاربة أن على الفلسطينيين أن يواصلوا الموت بصمت، حتى لا نُزعج حسابات لشكر السياسية؟
ربما أكثر العبارات التي أثارت الضحك – أو البكاء – هي حين قال لشكر: “نحن في الاتحاد الاشتراكي نعمل داخل المنظمات الأممية!”. حقًا؟ هل يُدرك الرجل أن قرارات الأمم المتحدة تُرمى في سلة المهملات بمجرد أن تعترض عليها القوى الكبرى؟ هل يظن أن التفاوض مع الاحتلال يمكن أن يتم عبر لجان ولقاءات شكلية لا تساوي الحبر الذي تُكتب به توصياتها؟ أم أنه فقط يحب المزايدة بطريقة معكوسة، حيث يُسكت الشارع بعبارات فضفاضة لا معنى لها؟
إدريس لشكر ليس السياسي الوحيد الذي يُمارس هذه الألاعيب، لكنه بالتأكيد واحدٌ من أمهرهم في المغرب. يحاول يائسا مسك العصا من المنتصف، لكنه يعرف أيضًا متى يمدّ يده إلى الجهة التي قد تمنحه شيئًا في المقابل. السياسة بالنسبة له ليست معركة مبادئ، بل سباق فرص، ومن يملك “التوصية” المناسبة، يملك مفتاح المرحلة القادمة.
لذلك، لا غرابة إن وجدناه ذات يوم في مؤتمر دولي، يلقي خطابًا حماسيًا عن “أهمية التوازن في العلاقات الدولية”، بينما في ذهنه حسابات أخرى، تتعلق بمستقبله السياسي، أكثر مما تتعلق بمستقبل فلسطين.
في النهاية، لكلٍ منا معركته، ولكن ليس الجميع يختار نفس ساحة القتال!