لك الله يا مدينة المحمدية…

عبد القادر الفضالي
ابن المحمدية، يسكنها حباً ويقيم عنها بُعداً، لا غُربة
أي قلب هذا الذي لا ينفطر وهو يرى مدينة كانت توصف بـ”زهرة الشواطئ” وهي تذبل يوماً بعد يوم؟ أي ضمير يقبل أن يرى “فضالة” التي أنجبت كبار المثقفين، واحتضنت الرواد في الفن والرياضة، تصبح اليوم ملعباً مفتوحاً لكل أشكال العبث، من التسيير العشوائي إلى البيع بالجملة لمقدراتها، حتى صار كل شيء فيها قابلاً للمتاجرة، من ملاعبها إلى شبابها، من تاريخها إلى مستقبلها.
مدينة المحمدية لم تسقط فجأة، بل جرى تقويضها حجراً حجراً، وركناً ركناً، بصمت وتواطؤ وصمتٍ آخر أكثر إيلاماً. لم تكن المحمدية يوماً في حاجة لمن يتصدق عليها، بل كانت دوماً مدينة تعطي دون أن تنتظر المقابل. كانت تستقبل الصيف بوجه بشوش، وترحب بالمصطافين بابتسامة لا تنطفئ، وتُخرج فرقاً رياضية تنافس الكبار في عزة نفس. لكن حين يُداس على الكرامة، وتُختزل المدينة في مجلس بلا بصيرة، ومصالح تتقاذفها رياح الانتخابات والمصالح الشخصية، فإن كل شيء يُصبح مباحاً… حتى كرامة الفريق الأول، شباب المحمدية، الذي صار هذا الموسم أضحوكة في قسم لا يرحم.
العار ليس في الهزائم فقط، بل في الطريقة التي يتم بها “تسويق” هذه الهزائم كأنها حتمية. الفريق الذي كان يحمل حلم مدينة، بات مجرد رقم في ذيل الترتيب. أربع نقط في موسم بأكمله؟ أين العيب؟ أفي اللاعبين؟ أم في العشب؟ أم في الجمهور الذي لا يتوقف عن التشجيع؟ أم أن المرض أكبر من مجرد نتائج؟ المرض في العقول التي ظلت ترى الرياضة بوابة للربح السريع، لا مجالاً لصناعة المجد أو بناء هوية جماعية. عقول لا تؤمن بالمشروع، بل بالمغنم، وتتعامل مع الفريق كما يُتعامل مع مقاولة مفلسة: تفريغ ممنهج، لا ينجو فيه لاعب ولا يحتفظ فيه الجمهور بالأمل. في غفلة من الزمن، تم تفريغ الفريق من كل عناصره، في انتدابات طالها التعتيم، وكأن الأمر لا يعني جمهوراً ولا تاريخاً، بل مجرد أوراق تمر تحت الطاولة، وتوقع في غرف بلا ضوء ولا ضمير.
من باع الفريق باع شيئاً من ذاكرة المدينة، ومن سمح بالبيع شارك في الجريمة. اللاعبون الذين يُعاملون كما تُعامل السلع، سُحبوا من الفريق ودُفعوا إلى فرق أخرى كما تُنقل البضاعة من مستودع إلى آخر، ليس لأنهم لا يصلحون، بل لأن من تخلّى عن الفريق في منتصف الطريق لم يكن يحمل مشروعاً رياضياً، بل مخططاً تجارياً بلباس وهمي من الشعارات. هؤلاء لا يعرفون شيئاً عن شغف الجماهير، ولا عن الوفاء لقميص المدينة، كل ما يعرفونه هو لغة الأرقام في دفاتر الحساب، وصفقات تُبرم في صمت وتُمرّر في غياب الشفافية، حتى بات الفريق مجرد واجهة تُدر مداخيل لم يُعلن عنها.
وفي مدن لا غيرة عليها، لا تحزن حين ترى الفريق يُذبح بسكين باردة. لا تتعجب حين ترى صحفياً يمدح مهزلة، أو مسؤولاً يبتسم في هزيمة، أو لاعباً يتنقل بين الفرق كأنه لا يحمل أي شعور بالانتماء. في هذه المدن، تُهدم المعالم ولا أحد يحزن، وتُطمس الذاكرة ولا أحد يحتج، ويُذل الجمهور ولا أحد يغضب… لأن الكل مشغول بحسابات الربح والخسارة، لكن ليس فوق العشب، بل خلف الكواليس، حيث تعقد الصفقات وتُبرم العهود في ليالٍ بلا نجوم.
الجامع الأبيض في المحمدية، ذاك الذي يتحدث عنه الفضاليون بكل خشوع، لا يغفر للخونة. هكذا يقول أهل المدينة، وهكذا يشعر كل من أحب المحمدية ذات يوم. كل من استهان بفضالة، ناله شيء من جزاء القدر، لأن هذه المدينة، رغم صمتها، لا تنسى. تعرف أبناءها، وتميز الغريب الذي أتاها طامعاً، تُهينه بصبرها، وتنتقم لهويتها بطريقتها الخاصة، بطيئة نعم، لكنها فعالة. العيون التي ضحكت على سكانها، ترى الآن ما لم يكن في الحسبان: أمراض، فرقة، عجز، ضياع… وكأن لعنة المدينة تطارد من خانها.
من يسعد اليوم برؤية شباب المحمدية يتعثر، هو نفسه الذي يتمنى استمرار الفوضى في المدينة. هؤلاء لا يحبون المدينة ولا فرقها، بل يحبون أنفسهم، ويجدون في تراجع الفريق مبرراً لبسط مزيد من السيطرة. هم لا يحتاجون لمخطط تقني، ولا لتصور مستقبلي، هم فقط يريدون فريقاً يخضع لهم، مدينة تنحني لهم، جمهوراً يصفق لهم وإن هُزم، ولا مانع لديهم أن تُصبح كل المباريات كوابيس، ماداموا هم في الصف الأول، يلوحون للكاميرات ويتحدثون عن “إكراهات المرحلة”.
لكن التاريخ لا يرحم، والذاكرة أقوى من النسيان. المحمدية ستبقى مدينة لا تُختزل في مجلس أو صفقة، ولا في إدارة عابرة. ستنهض، كما فعلت مراراً. جمهورها الذي ما زال يلبس القمصان الحمراء والاسود ويهتف باسم الفريق، رغم الخذلان، هو بذرة العودة. أما من خذلها، فمصيرهم كما يقول الفضاليون: تشتيت الأعشاش، وانطفاء البريق، لأن المحمدية لا تمنح البركة للخونة.
فيا من يهمه الأمر: لك الله يا مدينة المحمدية، وليل الظلم لا يدوم…
نقول هذا وقلوبنا معلقة بالدعاء لنجم لا تُذكر المحمدية إلا باسمه، ولا يُستحضر المجد الكروي المغربي إلا وكان في مقدمته: أحمد فرس، صاحب الكرة الذهبية الإفريقية، وواحد من الأسماء التي منحت الكرة المغربية هيبتها في المحافل القارية. لم يكن فرس مجرد لاعب، بل كان أيقونة للوفاء والعطاء، وفلسفةً كروية تمشي على قدمين، تلعب من القلب ولأجل القميص، لا لأجل العقود ولا العمولات. واليوم، في محنته الصحية، نقف جميعاً لنقول: شفاك الله يا من صنعت أفراحنا ذات زمن جميل، ويا من بقيت رمزاً للأصالة حين تحولت اللعبة إلى تجارة. المحمدية كلها تهمس باسمك، وتُرسل دعاءها للسماء، لأنك لم تكن فقط نجم الكرة… بل كنت ضوء المدينة حين كانت النجوم تُولد على العشب لا في مكاتب الوكلاء.
Good https://is.gd/tpjNyL