لماذا يصبح القانون أداة لاحتقار الذكاء البشري ويُطلب من الزوجة ترخيص لقيادة سيارة زوجها أمام عينيه؟

ضربة قلم
في السنوات الأخيرة، برزت عدة تعديلات قانونية في مجال السير والجولان بالمغرب، كان أبرزها القانون الذي يفرض على كل من يسوق سيارة لا يملكها أن يكون حاملاً لوكالة موقعة ومصححة الإمضاء من طرف المالك الشرعي للسيارة. وقد بدا في ظاهره قانونًا تنظيميًا يرمي إلى حماية الملكية الخاصة ومنع استعمال المركبات في جرائم أو في ظروف مشبوهة دون علم أصحابها، غير أن التطبيق العملي لهذا القانون كشف عن جوانب مثيرة للجدل بل وصادمة أحيانًا، حيث طُبِّق هذا النص بحرفية جامدة تجاوزت أحيانًا روح القانون، واعتدت على ما هو أسمى منه: الحق.
إحدى أبرز هذه الحالات وقعت حين أوقفت دورية درك زوجة كانت تقود سيارة زوجها، ولم تكتف الدورية بالتحقق من الأوراق القانونية العادية كالرخصة وبطاقة التأمين، بل طلبت منها وكالة مكتوبة من زوجها تُجيز لها قيادة السيارة، رغم أنه كان جالسًا إلى جانبها. من الناحية الشكلية، قد يبدو طلب الدركيين منسجمًا مع النص القانوني الذي لا يفرق بين الأزواج، الإخوة أو الغرباء، بل يحصر التعامل في وثيقة مكتوبة، لكن من الناحية الإنسانية والواقعية والحقوقية، فإن هذا السلوك يكشف عن خلل عميق في فهم وظيفة القانون وفي فلسفة تطبيقه.
القانون، في جوهره، ليس أداة قمعية تُستعمل لإثبات السلطة الشكلية بقدر ما هو تعبير عن تعاقد اجتماعي يفترض فيه أن يحمي المواطنين، لا أن يهينهم أو يُعرقل حياتهم اليومية. حين يطلب عنصر أمني من زوجة وكالة مكتوبة وزوجها بجانبها، فهو لا يطبق القانون بل يتعسف في تفسيره، لأنه يتجاهل عنصر الثقة الطبيعية والبديهية في العلاقة الزوجية، ويتغاضى عن مبدأ “البيّنة على من ادعى”، إذ لا يمكن لعاقل أن يشك في نية جنائية أو تدليسية لدى شخص يجلس برضاه في المقعد الأمامي بينما زوجته تقود سيارته.
المثير أن هذه الحادثة لم تكن استثناءً، بل تعكس حالة ذهنية لدى بعض رجال الأمن الذين يخلطون بين تطبيق النصوص وبين مطاردة ظلالها، حيث يتمسكون بورقة الوكالة كأنها وثيقة مقدسة، غير مدركين أنها وسيلة وليست غاية، وأن القانون إن لم يُستوعب ضمن السياق الاجتماعي والقيمي للأفراد، يتحول إلى أداة عبث لا تخدم العدالة بل تُفسدها. إن وضعية الزوجة التي طُلب منها ترخيص كتابي لقيادة سيارة زوجها أمامه، تحمل في طياتها معانٍ كثيرة للامساواة، وتكشف عن سلوك بوليسي لا قانوني، يضرب عرض الحائط مبدأ حسن النية الذي يفترض في التعامل بين المواطنين والإدارة.
السلطات في مثل هذه الحالات تغفل الفرق بين «القانون» و«الحق»، وبين «الشرعية» و«العدالة». فالقانون يمكن أن يُكتب بطريقة مجحفة أو تطبيقه يمكن أن يكون تعسفيًا، بينما الحق لا يُقاس بورقة أو توقيع، بل بالمبادئ الأساسية للحرية والكرامة والثقة المتبادلة. لا أحد ينكر أن القانون يجب أن يسري على الجميع دون استثناء، لكن تعميم الشك وفرض الحذر المبالغ فيه حتى في داخل الأسرة الواحدة يجعل من الأجهزة الأمنية أداة لتكريس الريبة وتفكيك الثقة داخل النسيج المجتمعي.
ومن هنا تظهر الحاجة الملحة لإعادة النظر في طريقة تكوين رجال الأمن في ما يخص فلسفة تطبيق القانون، ليكونوا أكثر وعيًا بالسياق وأقل تعلقًا بالنص المجرد. ينبغي أن يدركوا أن المواقف الإنسانية اليومية لا تُحل دائمًا بالرجوع إلى النصوص الباردة، بل تتطلب حدًا أدنى من الذكاء الاجتماعي، ومن القدرة على تقدير الموقف وتمييزه، لا معاملته بعين روبوتية لا ترى في الإنسان إلا مجموعة من الوثائق.
كما أن المسؤولية تقع كذلك على عاتق المشرّع، الذي لا يكفي أن يُصدر القوانين دون أن يُرفقها بمواد تفسيرية واضحة تأخذ بعين الاعتبار الحالات الخاصة والعلاقات الطبيعية داخل المجتمع. ما فائدة قانون يحمي سيارة من السرقة، إذا كان يُستعمل لإهانة زوجة وزوجها على قارعة الطريق؟ ما قيمة نص قانوني إن تم استعماله ضد مواطنين ملتزمين فقط لأن الدورية أرادت أن تثبت سلطتها، أو أن تسجل مخالفة إضافية؟
في العمق، كل القوانين التي تصدر في مجال تنظيم السير أو الملكية أو الاستعمال يجب أن تُبنى على منطق التوازن بين الحماية والمرونة، بين التشديد والانفتاح، دون أن تسقط في فخ الشك التلقائي الذي يُحول كل مواطن إلى مشتبه فيه، وكل امرأة إلى شخص ناقص الأهلية لا يقود إلا بإذن مكتوب.
إن حادثة الزوجة والسيارة ليست مجرد واقعة عابرة بل هي مرآة تكشف خللاً أكبر في العقلية القانونية وفي العلاقة بين الدولة والمواطن، بين رجل الأمن والحقوق الفردية، وبين النص والتأويل. ما لم يتم إعادة النظر في هذا التعاطي، فسنظل نعيش حالات عبثية يتفوق فيها الورق على العقل، وتُداس فيها الكرامة باسم القانون، ويُنسى أن الأصل في الأشياء هو الحرية، لا التقييد.