مؤتمر العدالة والتنمية التاسع في بوزنيقة: بين النضال الوطني والدعم اللامشروط لفلسطين

ضربة قلم
في لحظة سياسية مشحونة بالعواطف الوطنية والتاريخية، انطلقت صباح اليوم السبت بمدينة بوزنيقة أشغال المؤتمر الوطني التاسع لحزب العدالة والتنمية، وسط أجواء مشبعة بروح التضامن مع القضية الفلسطينية، ورفض مطلق لموجة التطبيع مع الكيان الصهيوني التي اجتاحت المنطقة في السنوات الأخيرة.
تحت شعار عميق الدلالة: “النضال من أجل مصداقية الاختيار الديمقراطي وكرامة المواطن”، اجتمع الآلاف من مناضلي الحزب في مشهد لم يخلُ من رمزية ثقيلة، رافعين الأعلام المغربية والفلسطينية معًا، ومتلحين بالكوفية الفلسطينية، في مشهد بدا وكأنه إعلان رمزي عن تمسكهم بوحدة القضايا العادلة، وارتباطهم الوجداني والتاريخي مع فلسطين.
لم تكن الكوفية مجرد قطعة قماش سوداء وبيضاء على أعناق المؤتمرين، بل كانت راية للهوية المقاومة ورسالة سياسية إلى من يعنيهم الأمر: أن القضية الفلسطينية ما تزال في صلب الوجدان المغربي رغم رياح التطبيع العاتية، وأن إرادة الشعوب أعمق من حسابات اللحظة وأقوى من ضغوط المرحلة.
ورغم أن الجميع كان يترقب حضور وفد رسمي من حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وهو ما لم يحدث لأسباب لم يتم الإعلان عنها، فإن ذلك لم ينل من حماس المؤتمرين الذين ظلوا يرددون شعارات داعمة لفلسطين بكل ما يملكون من قوة الصوت وروح النضال.
ارتفعت الحناجر في القاعة، مرددة:
“الشعب يريد إسقاط التطبيع”،
“لا لا ثم لا.. التطبيع مهزلة”،
“تحية مغربية.. لفلسطين الأبية”،
“من المغرب لفلسطين.. شعب واحد لا شعبين”،
في تعبير مباشر عن رفضهم القاطع للتطبيع الرسمي، وتمسكهم بالهوية القومية والأخلاقية التي ظل المغاربة يفاخرون بها لعقود.
دلالات الغياب والحضور
كان لافتًا غياب وفد حركة “حماس”، خاصة وأن الحزب كان من الداعمين التقليديين للمقاومة الفلسطينية، وهذا الغياب ألقى بظلال من التساؤلات: هل هو غياب ظرفي متعلق بتطورات المشهد السياسي الفلسطيني أم أن هناك حسابات إقليمية ودولية فرضت نفسها على المشهد؟
لكن رغم الغياب الفيزيائي، فإن حضور فلسطين كان طاغيًا على كل تفاصيل المؤتمر: في الشعارات، في الخطب، وفي الأجواء العامة التي سادت المكان. وكأن المؤتمر، من حيث لا يدري، تحول إلى منصة وطنية صريحة لمناصرة الحق الفلسطيني، وللإعلان من جديد أن القضية ليست للبيع ولا للمساومة.
مواقف حزبية متقاطعة وتحالفات ضمنية
حضر المؤتمر ممثلون عن مختلف ألوان الطيف السياسي المغربي، سواء من الأغلبية أو المعارضة، وهو ما أعطى للقاء طابعًا وطنيًا جامعًا، استثنى فقط حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي غاب عن المشهد لأسباب لم يكشف عنها رسميًا بعد.
لكن في الحضور السياسي الوازن، قرأ المراقبون رسائل واضحة: أن حزب العدالة والتنمية، رغم الضربات التي تلقاها انتخابيًا، لا يزال يمتلك قدرة كبيرة على التجميع والتعبئة، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى للأمة.
التطبيع.. الجرح المفتوح في الوجدان الشعبي
منذ الإعلان عن تطبيع العلاقات بين المغرب والكيان الصهيوني أواخر 2020، انقسم الرأي العام المغربي بين مؤيد يرى في الخطوة مصلحة سياسية واقتصادية للمملكة، ورافض يعتبرها خيانة للموقف التاريخي للمغرب تجاه فلسطين.
حزب العدالة والتنمية، الذي وجد نفسه حينها في موقف معقد كرئيس للحكومة المنفذة للتطبيع، بدا اليوم وكأنه يسعى إلى إعادة التموضع داخل قاعدته الجماهيرية، عبر رسائل قوية مناهضة للتطبيع، داعمة للمقاومة، مؤكدًا أن وفاءه لفلسطين ليس موضع مساومة.
هذا الموقف لم يكن مجرد استعراض، بل جزء من محاولة الحزب لإعادة بناء نفسه بعد الهزيمة الانتخابية الساحقة سنة 2021، حيث يسعى لإحياء جذوته النضالية عبر الالتصاق بقضايا الأمة الأساسية التي طالما شكلت جزءًا من خطابه التاريخي.
ما وراء الكواليس: إعادة بناء المشهد الحزبي
المؤتمر التاسع جاء أيضًا في سياق محلي معقد: إعادة ترتيب البيت الداخلي، تجديد القيادات، مراجعة التجربة الحكومية السابقة بكل ما حملته من نجاحات وإخفاقات، والتحضير للعودة السياسية بقوة إلى المشهد، ولو من بوابة المعارضة النضالية لا المزايدة الشعاراتية.
في الكواليس، كانت النقاشات الحزبية تدور حول الحاجة إلى خطاب سياسي جديد أكثر انسجامًا مع قضايا المجتمع، أقل توتراً مع مراكز القرار، وأكثر التصاقًا بتطلعات الشباب المغربي الذي يعيش أزمة ثقة خانقة مع كل تعبيرات السياسة التقليدية.
فلسطين كبوصلة أخلاقية
في النهاية، بدا واضحًا أن اختيار شعار دعم فلسطين والتصدي للتطبيع لم يكن مجرد ترف خطابي، بل هو استدعاء لبوصلة أخلاقية يحتاجها الحزب لإعادة تعريف موقعه السياسي والأخلاقي في مغرب متحول.
وفي بلد عريق كمغرب، ظل شعبه لعقود يهتف لفلسطين في كل الساحات والملاعب والمسيرات، لا تزال القضية الفلسطينية تمثل اختبارًا صامتًا لشرعية الأحزاب ونقائها الوطني.
بوزنيقة اليوم لم تكن فقط محطة حزبية، بل كانت بمثابة صرخة شعبية جديدة في وجه النسيان، وإعلان جماعي بأن “غزة رمز العزة”، وأن الشعوب، مهما عصفت بها الرياح، لا تنسى من ظلمهم التاريخ ولا يغفر لهم الضمير.