مات صاحب النية… وتفرّق الورثة ضاحكين!

ضربة قلم
هذه الحياة التي لا تستحق المعاناة، لا من باب التهويل، بل لأنها ببساطة صفقة خاسرة وكمين سيكولوجي جماعي، تتواطأ فيه العائلة والمجتمع والزمن ضدك، وأنت تمشي بكل غباء ووداعة نحو فخ كبير اسمه “الواجب” و”النية” و”النية مرة أخرى”، ثم تستيقظ ذات مساء لتجد أن أقرب الناس إليك يتناولونك كأنك كنت ضيفاً عابراً على موائد مصالحهم.
كل شيء يبدو عادياً في البداية. تضحك وتلعب وتدخل المدرسة وتحلم. ثم تأتي اللحظة التي تسمع فيها عبارة: “كون راجل… كون خدام… خاصك تعاون العائلة…”. وتبدأ في بناء حياة ليست لك، بل لهم. تكدّ وتفني عمرك لتشتري دواء لوالدك أو ولولدتك، دفتراً لأختك، قسطاً مدرسياً لابن أخيك الذي لا يحفظ حتى اسمه، وفجأة تصبح “ضرورياً” فقط لأنك مُفيد. مجرد بطاقة بنكية بشرية قابلة للاستغلال حتى الإفلاس.
ثم يمرض قلبك. أو ظهرك. أو تضعف عينك. فتبدأ في الانسحاب قليلاً. لا أحد يسألك عن حالك إلا إذا كان السؤال مقدمة لطلب. “كيف داير؟” تسبق عادة: “كنفكر نبدل التلاجة وخاصني غير شي سلف خفيف.” لا أحد يزورك لأنك موجود، بل فقط إن كنت على حافة الزوال. وحتى تلك الزيارة، تحمل في حقيبتها نظرات تقييم: هل بدأت تفقد قوتك؟ هل ضعفت؟ هل انتهى دورك؟ هل حان وقت التركة؟
أخوك… الذي كنت تغطي واجبه المدرسي أو تشتري له الحذاء وتغطي فشله بابتسامتك. هو أول من يتصل بموثق العقار لحظة دخولك المستشفى، لا ليسأل عنك، بل ليسأل عن اسم مالك العقار الذي تسكن فيه. وأختك المنافقة، التي كنت تسهر على راحتها وتشتري لها الدواء سرا كي لا يغضب زوجها، تمسح دمعة وهمية على خدها، ثم تهمس: “واش دار شي وصية؟ راه خاصنا نعرفو…”.
الحياة، بهذا المعنى، ليست درباً للمعنى، بل هي ممرٌ طويل للتجربة الإنسانية في أكثر أشكالها وحشية، مقنعةً في البداية، ماكرة في الوسط، ساخرة في النهاية. تجد نفسك محاطاً بأشخاص، كنت تظنهم يحبوك، لتكتشف أنهم فقط يحترفون الانتظار: ينتظرون لحظة انهيارك، أو لحظة وفاتك، أو لحظة ضعفك، فقط ليبدأوا رحلة التحلل من كل مظاهر الحُب القديمة.
وتفكر في نفسك، تقول: أنا لم أطلب الكثير. أردت فقط أن أعيش باحترام، أن أساعد وأُحبّ وأتبادل العطف. لكنك تجد أن المساعدة تُفهم كواجب، والعطف يُعتبر ضعفاً، والابتسامة مدخل للاستغلال. تبني علاقات على أساس النية، بينما يبنونها على نوايا مدسوسة تحت ابتسامات. تصبح أنت “الذي يعوَّل عليه”، فقط حتى تَكلّ. وعندما تَكلّ، يقولون لك: “خصك تاخد راحتك، دابا خلي كلشي علينا…”. ولكن لا أحد يأخذ عنك شيئاً. بل يأخذون “منك”.
ثم تموت. وأنت تظن أن جنازتك ستكون لحظة احتفاء بإنسانيتك. لكن الحقيقة أن جنازتك هي أول مؤتمر عائلي يُعقد بلا إذنك. تقرأ فيه أختك “الفاتحة” بعيون نصف مبللة، ونصف أخرى تتفحص السوار الذهبي الذي كنت تخبئه. يصافحك أخوك في التابوت، ويبدأ مباشرةً بعد دفنك بمكالمة سريعة: “شوف ليا واش الطوموبيل جات فسمية المرحوم ولا فسمية الشركة، راه خاصنا نوضّفو واحد…”.
الجار يقول: “الله يرحمو، كان ساكت وما كيدخلش فشي حاجة…”، ثم يضيف: “ولكن هدشي ماشي معقول، عمر شي واحد يدير بحالو؟”
الحياة تُقلبك في جحيم التكرار: تعمل وتُعطي وتخسر وتُغدر، ثم تعود تعمل من جديد. لأنك صدّقت الحكاية التي رُويت لك، حكاية مفادها أن الخير ينتصر في النهاية. لكنك اكتشفت أن النهاية مكتوبة أصلاً، وأن البطولة فيها تُمنح لمن يملك المفاتيح لا القلوب.
تصل لمرحلة يصبح فيها أقل طموحاتك هو أن تمرض بكرامة. أن تموت دون أن تُعرَّى حياتك أمام المحاكم والمصالح العقارية. أن يُدفنك أحدهم لأنه يحبك، لا لأنه يسابق الزمن ليفتح الخزانة. أن لا يُنادى عليك في مراسيم الورثة بـ”الموروث”، كما لو أنك حقيبة سفر مفقودة في مطار مراكش.
وتجلس أخيراً، بصمت داخلي، تراجع شريط عمرك. تتساءل:
هل كان يستحق كل هذا الجري؟
هل كانوا يستحقون كل هذا العطاء؟
هل كانت هذه فعلاً “حياة” أم مجرد فاصل ساخر بين ولادة قسرية وموت لا أحد يأسف له فعلاً؟
هل تعبت من أجلك، أم تعبت من أجل مجموعة من الحاقدين الذين ابتسموا حين مرضت، وفرحوا حين تعثرت، وتسللوا إلى جيبك حين غفوت؟
الحياة لا تستحق المعاناة، ليس فقط لأنها قاسية، بل لأنها تتواطأ بصمت مع من لا يستحقك. لأنك تمضيها في الترجّي والمجاملة، في حين أن آخرين يمضونها في رسم خطط سقوطك. تمشي حافي القلب بين أناس يلبسون أقنعة الحب، فيما هم في الأصل حفارو قبور مؤقتون ينتظرون ساعة جنازتك… لا ليبكوك، بل ليقسّموك.