
ضربة قلم
جيلان بينهما بحر من الاختلافات، وأمواج من المعاني، وذاكرة وطن تتأرجح بين المجد والخذلان.
جيل اليوم، جيل “زد”، يعيش في عالمٍ يضجّ بالضوء… لكنه ضوء الشاشات لا ضوء الفجر.
يحمل هاتفًا ذكياً يعرف أكثر مما يعرفه المعلم، ويتحدث مع العالم وهو في سريره، ويثور على “اللايك” و”الفولو” قبل أن يثور على الغلاء والفساد.
هو جيل سريع في كل شيء: في الغضب، في الملل، في الحب، وحتى في النسيان.
يكتب غضبه في “ستوري” تختفي بعد يوم، ويظن أن الثورة الرقمية تكفي لتغيير واقعٍ عمره عقود.
لكن لا تظلموه…
فهو جيل لم يختر زمنه، بل وُلد في مرحلة صارت فيها الأبواب موصدة، والفرص نادرة، والأحلام معلّقة على تأشيرة.
جيل يرى حلمه في “تذكرة طائرة”، وكرامته في “فيزا شنغن”، ومستقبله في “عقد عمل” بعيد عن وطنٍ أحبّه من بعيد.
أما الجيل الآخر، جيل اللي غلب فرنسا في الشيلي- أي المنتخب المغربي لأقل من عشرين سنة – فهو الوجه المشرق لجيل “زد” نفسه.
جيلٌ جديد، لكنه يذكّرنا بأيام الكبار، بأيام الحماس والروح، واللعب من أجل الراية لا من أجل الشهرة.
في ملاعب الشيلي، وقف أولئك الفتية بشجاعة أمام منتخبات عالمية مدجّجة بالنجوم، وكتبوا انتصارات ستبقى في الذاكرة:
الفوز على فرنسا لم يكن مجرّد نتيجة، بل رسالة إلى العالم بأن المغرب لا يزال يُنجب رجالًا يعرفون معنى القتال الشريف.
جيل الشيلي لم يكن فقط مجموعة من اللاعبين، بل كان رمزًا لجيلٍ يبحث عن ذاته وسط زحام الخيبات.
جيل يثبت أن أبناء هذا الوطن، رغم الإهمال وقلة الإمكانات، قادرون على صناعة المعجزة حين يؤمنون بأنفسهم.
هم أبناء هذا الجيل الرقمي، لكنهم اختاروا أن يُقاتلوا في الميدان لا على الشاشات.
جيلٌ وُلد في عصر “الترند”، لكنه صنع مجده الحقيقي بالعَرق.
جيلٌ يعيش بعقل حديث، لكن بقلبٍ من معدنٍ قديم؛ معدن الرجولة والوطنية والغيرة على الألوان.
ذلك الفوز الأخير -الذي نتمى صادقين أن يتكرر أمام الأرجنتين- في الشيلي لم يكن مجرّد انتصارٍ كروي، بل كان صرخة أملٍ مغربية تقول:
“لسنا عالة على التاريخ… نحن امتداده!”
فجيل الأمس، جيل الذين بنوا الوطن بالعرق والحلم، يسلّم اليوم المشعل لجيلٍ يملك الأدوات والمعرفة، وينقصه فقط الإيمان بنفسه.
الفرق بينهما ليس في القدرة، بل في الرؤية.
جيل الأمس آمن بأن الوطن يستحق التضحية، وجيل اليوم يحتاج أن يرى أن الوطن ما زال يستحقها.
ما كاين غير جيل “زد” والجيل اللي غلب فرنسا في الشيلي…
جيلان من معدنٍ واحد، وإن اختلفت الملامح والوسائل.
فالأول زرع الحلم، والثاني بدأ يسقيه من جديد.
وبينهما، يا سادتي، يقف وطنٌ جميل، يمدّ يده إليهما معًا، قائلاً:
“كملوا المشوار… راه التاريخ باقي مفتوح، والمجد ما سالا!”




