فن وثقافة

مثقف تحت الطلب: بين الحائط والتصفيق الجماهيري

ضربة قلم

لقد أصبح لقب “مثقف” في المغرب أشبه ببطاقة هوية غير معترف بها رسميًا، لكنها تفتح الأبواب لمن يرغب في ارتداء عباءة الحكمة دون الحاجة إلى اجتياز اختبار حقيقي. إنه لقب بلا حماية قانونية، بلا ضوابط، بلا تعريف واضح، تمامًا كوظيفة “خبير استراتيجي” التي تظهر فجأة عند كل أزمة سياسية أو اقتصادية أو حتى كروية. كل من قرأ بضعة كتب، أو كتب مقالات معدودة، أو ظهر في ندوات قليلة، صار قابلاً للتصنيف ضمن هذه الفئة الغامضة التي تشبه نادياً سرياً، لكن عضويته مفتوحة لكل من يجيد حياكة الكلمات وصناعة المواقف الرمادية.

المثقف، وفقًا لما يبدو، مطالب اليوم بمواكبة السياق العالمي والمحلي، وهو تحدٍّ كبير، خصوصًا لمن يجد صعوبة في مواكبة فاتورة الماء والكهرباء. هذا السياق لا يشمل فقط الليبرالية الاقتصادية، التي تبتلع الجميع كما تبتلع شركات الاتصالات أرصدة الهواتف، بل يتطلب منه أيضاً أن يلمّ بـ”كراء الأرحام” و”تحولات القيم الأسرية” وكأنه عالم اجتماع متخفي. فالمثقف في هذا العصر لم يعد مجرد شخص يقرأ ويكتب، بل صار مطالبًا بأن يكون متخصصًا في كل شيء: الفلسفة، الاقتصاد، التكنولوجيا، السياسة، وحتى تطورات الجينات، وإلا سقط في فخ “التجاوز الفكري”، ذلك المصطلح الرهيب الذي يجعل المثقف يبدو وكأنه تطبيق قديم لم يتم تحديثه منذ سنوات.

ثم يأتي الحديث عن “الشجاعة الكافية لاختبار المناهج الخاصة”، وهي عبارة جميلة تذكّرنا بأن المثقف في المغرب غالبًا ما يكون محاصرًا بمنهج واحد: منهج البحث عن مورد رزق يحفظ له ماء الوجه أمام صاحب البيت أو كمبيالات العقار وموزع الإنترنت. فمراجعة البراديغمات والاشتباك مع “كارل بوبر” وفلسفته حول قابلية التكذيب تبدو ترفًا لمن لا يزال يكافح من أجل طباعة كتابه الأول، أو يلهث خلف منحة بحثية ضاعت بين رفوف البيروقراطية.

أما العلاقة بين المثقف والسياسي، فهي قصة حب فاشلة منذ الاستقلال. السياسة، كالعشيقة المتقلبة، أغوت كثيرًا من المثقفين، لكنها سرعان ما تخلّت عنهم عند أول منعطف. فالمثقف الحالم بالمساهمة في السياسات العمومية يكتشف سريعًا أن السياسة المغربية لا تحتاج إلى فلاسفة أو مفكرين، بل إلى خبراء في التوازنات، أشخاص يجيدون التصفيق حين يكون التصفيق مطلوبًا، ويجيدون الصمت حين يصبح الصمت أذكى من الكلام. لهذا، حين يجلس المثقف على طاولة الحوار مع السياسي، فإنه يجلس كضيف شرف، لا كصاحب قرار، وربما يُطلب منه تزيين المشهد ببعض العبارات الرنانة قبل أن يُدفع نحو الهامش مجددًا.

الطريف في الأمر أن المثقف في المغرب كان دائمًا في موقف دفاعي، سواء أمام السلطة أو المجتمع. فهو متهم بالانفصال عن الواقع، متهم بالنخبوية، متهم بالتذاكي، وحتى حين يكون صادقًا، فهو متهم بالمثالية الزائدة. أما إذا قرر المثقف أن يقترب من الشعب، فسرعان ما يُنظر إليه بعين الريبة: هل يريد أن يتحول إلى “مؤثر”؟ هل يسعى وراء شهرة زائفة؟ هل يبحث عن منصب؟ وهكذا، يجد المثقف المغربي نفسه بين المطرقة والسندان، بين السلطة التي لا تريده إلا صامتًا، والجمهور الذي لا يريده إلا مهرجًا.

وحين يقال إن “المثقف يجب أن يكون مستقلاً عن السلطة”، فإن الجميع يبتسم في سرّه. فمن يموّل المثقف؟ من يدعمه؟ من ينشر كتبه؟ من يمنحه المنح البحثية؟ الاستقلالية المطلقة تبقى فكرة رومانسية جميلة، لكنها في الغالب مجرد وهم. فحتى المثقفون الكبار في المغرب كانوا على صلة بالسلطة بشكل أو بآخر، وأحيانًا كانت هذه العلاقة هي التي أتاحت لهم فرصة البقاء في المشهد.

أما فكرة أن “الكتابة تجعل المثقف عارياً”، فهي بالفعل مقلقة، لأن العري هنا ليس فقط فكريًا، بل أيضًا ماليًا واجتماعيًا. المثقف المغربي، حين يكتب، يضع نفسه تحت رحمة قرّاء قد لا يتجاوز عددهم أحيانًا عدد أفراد عائلته، وحين ينشر كتابًا، فهو يعلم مسبقًا أن السوق لا ترحب كثيرًا بالكتب التي لا تندرج ضمن تصنيف “التنمية الذاتية” أو “فضائح المشاهير”. وإذا كتب نقدًا صريحًا، فهو يغامر بدخول معركة قد تكلّفه أكثر مما يتصور.

وبالنهاية، يبدو أن البحث عن صفة “مثقف” في المغرب يشبه البحث عن وظيفة في قطاع شبه منقرض. المثقف المغربي الحقيقي هو الذي يمشي بجانب الحائط، وليس لأنه يفتقد للشجاعة، بل لأنه يعرف أن من يغامر بالخروج إلى الساحة قد يجد نفسه بلا سند، بلا صوت، وربما بلا مستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.