مجتمع

محاكمة عبد العالي حامي الدين: عدالة مؤجلة أم فبركة موجهة؟

ضربة قلم

يبدو أن محاكمة عبد العالي حامي الدين، القيادي في حزب العدالة والتنمية وأستاذ القانون الدستوري، تندرج ضمن تلك القضايا التي يَشمُّ منها الرأي العام رائحة التوظيف السياسي، والانتقائية في فتح الملفات القضائية على إيقاع التوترات الظرفية أو التوازنات المرحلية التي تتحكم فيها حسابات غير قانونية. فالملف يعود إلى تسعينيات القرن الماضي، وبالضبط إلى سنة 1993، حين لقي الطالب اليساري محمد بنعيسى آيت الجيد مصرعه في ظروف كانت جامعات المغرب تعيش خلالها على وقع عنف سياسي حاد بين مكونات طلابية تنتمي إلى مرجعيات إسلامية ويسارية وقومية، في سياق سياسي مشحون كانت فيه الدولة نفسها تمارس “ترويضاً” للمعارضين بكل الطرق، بما في ذلك التغاضي أحياناً عن الفوضى الجامعية التي كانت تؤدي إلى فقدان أرواح الشباب.

أن يُعاد فتح هذا الملف بعد مضي أزيد من ربع قرن، وفي وقت أصبح فيه عبد العالي حامي الدين واحداً من أبرز الوجوه السياسية المحسوبة على تيار معين، له حضوره داخل المؤسسات المنتخبة وله وزنه في النقاشات الحقوقية والسياسية، هو أمر لا يمكن قراءته خارج سياق التجاذبات المتنامية بين السلطة وأجنحة المعارضة. فلو كان الهدف فعلاً هو الوصول إلى الحقيقة ومعاقبة الجناة، لكان من الأجدر أن يُفتح التحقيق فور وقوع الجريمة، أو على الأقل خلال السنوات التي تلتها حين كانت الذاكرة لا تزال طرية والشهادات أقرب إلى الحقيقة منها إلى التأويل أو الاجتهاد. أما أن يُعاد فتحه فجأة بعد عقود، بناءً على شهادة شخص واحد، يُقدم اليوم بصفة “الشاهد الرئيسي”، فهذا يطرح أكثر من علامة استفهام حول نوايا الجهات التي حركت الملف من سباته العميق.

من المؤسف أن تتحول بعض الملفات القضائية إلى أدوات للضغط السياسي أو لتصفية الحسابات المؤجلة، خصوصاً حين تُعاد صياغتها بطريقة تبدو أقرب إلى “الفبركة المخزنية” منها إلى تحكيم القانون والعدالة. وفي هذا السياق، تُطرح تساؤلات جدية: لماذا لم يتم الاستماع إلى كافة الشهود فور وقوع الجريمة؟ من هم فعلاً الأشخاص الذين شاركوا في الواقعة؟ وهل فعلاً تمت إحالتهم على العدالة، أم أن انتقائية معينة تدخلت في لحظة ما لتحديد من يُتابَع ومن يُستثنى؟ وماذا عن دور الأجهزة الأمنية آنذاك؟ ألم تكن حاضرة بقوة في الفضاءات الجامعية؟ أم أن السكوت عن بعض الوقائع كان جزءاً من “سياسة غض الطرف” التي كانت متبعة حينها لتمرير أجندات أوسع ترتبط بتفكيك البنيات التنظيمية للمعارضة الطلابية؟

ما يزيد من غرابة الملف أن التهمة نفسها جرى تكييفها من “القتل العمد” إلى “المشاركة في الضرب والجرح المفضي إلى الموت دون نية إحداثه”، وهو تكييف قانوني يفتح الباب للتأويل، لأنه يوحي بأن هناك نية ضمنية في إيجاد مخرج قانوني أقل شدة من التكييف الأصلي، لكنه في الوقت ذاته يترك المتهم عالقاً بين براءة لم تتحقق وإدانة غير مكتملة الأركان. هذا الوضع لا يخدم لا العدالة ولا المجتمع، بل يغذي فقط الشكوك في نزاهة المحاكمة.

اللافت أيضاً أن هذا الملف يُعاد إحياؤه في سياق وطني يشهد فيه القضاء المغربي محاولات حثيثة لإثبات استقلاليته، ويعيش فيه المجتمع السياسي حالة من الترقب والقلق بسبب تضييق الحريات وتزايد الاعتقالات ذات الطابع السياسي أو المرتبطة بحرية الرأي. وإذا كانت السلطة القضائية ترغب فعلاً في تعزيز ثقة المواطن، فعليها أن تُثبت أن لا أحد فوق القانون، لكن في الوقت ذاته أن لا أحد يُستهدف انتقائياً بناءً على مواقفه السياسية أو انتماءاته الفكرية.

إن إعادة محاكمة عبد العالي حامي الدين، بغض النظر عن شخصه، تختبر اليوم مصداقية القضاء المغربي وقدرته على تحصين نفسه من التوظيف السياسي. فإذا ثبت أن هناك شهوداً جدداً وقرائن حقيقية وجدية، فليأخذ القانون مجراه. أما إذا تبيّن أن القضية أعيد تحريكها بناءً على اجتهادات فردية أو بدفع خفي من جهات لا علاقة لها بمنطق العدالة، فإن استمرار هذه المحاكمة سيشكل وصمة جديدة في جبين العدالة الانتقائية، التي لا زالت، مع الأسف، تطل برأسها في عدد من المحاكمات السياسية.

فهل نحن أمام لحظة تصفية حسابات بلبوس قانوني؟ أم أننا بصدد محاولة حقيقية لرد الاعتبار لروح فقيد مات في زمن الفوضى؟ الإجابة لن تأتي من المقالات أو الخطب، بل من مسار محاكمة عادلة، شفافة، متحررة من كل ضغط، ومن شهود لا تحركهم الانتماءات ولا تنقصهم المصداقية. وحين يتحقق ذلك، وحده التاريخ سيكون الحكم الفصل، لا الدعاية ولا المحاضر الملفقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.