“مختفون” لم يختفِ… بل حضر شاهداً أمام المحكمة!

ضربة قلم
في سابقة مثيرة للجدل، وجد القضاء المغربي نفسه أمام معطى غير مألوف: تسجيل تلفزيوني من برنامج “مختفون” على القناة الثانية يُستعمل كعنصر إثبات في قضية تزوير. مشهدٌ لم تتخيله الأوساط القانونية قبل سنوات، حين كان التلفزيون فضاءً للفرجة فقط، لا لسبر أغوار الحقيقة القضائية.
القضية انطلقت عندما ظهرت سيدة في البرنامج المذكور وهي تطلق نداءً مؤثرًا للبحث عن والدتها الحقيقية. غير أن هذا الظهور لم يمرّ مرور الكرام؛ فقد أصبح جزءًا من ملف قضائي يُتابَع فيه صاحبته بتهمة تزوير رسم إرث. المحكمة اعتبرت أن تصريحاتها العلنية أمام الكاميرا تتناقض مع وثائقها الرسمية، فكان لذلك الظهور وزنٌ في بناء القناعة القضائية.
بهذا القرار، يكون القضاء المغربي قد فتح بابًا جديدًا في عالم الإثبات: لم تعد الأدلة حكراً على الوثائق والمحررات والشهادات، بل أصبح للإعلام المرئي مكانه بين أروقة العدالة. فالتلفزيون، الذي يُخاطب العواطف، بات اليوم يمدّ القضاء بملفات رقمية يمكن أن تغيّر مصير قضايا كاملة.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: إلى أي حد يمكن للمشهد التلفزيوني أن يكون شاهدًا عدلاً؟
فالمتحدث أمام الكاميرا لا يكون دومًا في وضعٍ متزن، وقد يبوح بأسرار أو يعبر عن انفعالات لا تصلح لتكون حجّة دامغة. وهنا تكمن خطورة الخلط بين الاعتراف الإنساني وبين الاعتراف القضائي.
القضاء، وهو يقترب من عالم الإعلام، يحتاج إلى ميزان دقيق يزن النوايا بقدر ما يزن الأقوال. لأن ما يُقال أمام عدسة الكاميرا لا يخضع بالضرورة لضوابط التحقيق ولا لحق الدفاع، بل لضرورات الإخراج والتأثير العاطفي. ومن هنا، فإن تحويل المادة الإعلامية إلى دليل قضائي يفرض ضوابط تقنية وأخلاقية تضمن سلامتها من التلاعب وتحفظ كرامة الأشخاص الذين ظهروا فيها.
في المقابل، لا يمكن تجاهل الجانب الإيجابي لهذا التطور؛ فوسائل الإعلام كثيراً ما كشفت حقائق ظلت مطموسة، وساهمت في تسليط الضوء على مظالم إنسانية لم تكن لتصل إلى القضاء لولا الصورة والكلمة. ولعلّ في هذه السابقة ما يدفع نحو تعزيز التعاون بين الإعلام والعدالة، شرط أن يظلّ كل طرفٍ في حدوده المهنية.
إننا أمام لحظة فاصلة في العلاقة بين الكاميرا والقاضي. فحين تمتدّ العدالة إلى الشاشة، يصبح المطلوب من الجميع – من الصحفي إلى المحامي، ومن القاضي إلى المواطن -أن يعيدوا التفكير في مفهوم الحقيقة نفسه.
هل هي ما يُرى؟ أم ما يُثبت؟
وهل يمكن للعدسة أن تنطق بالحكم قبل أن ينطقه القاضي؟
الزمن وحده كفيل بالإجابة، لكن الأكيد أن بابًا فُتح، ومن الصعب أن يُغلق بعد الآن.




