مجتمع

مدننا الصغيرة… حيث يُدفن النجاح تحت لسان الجار وتُغتال الطيبة بشاي العصر

ضربة قلم

في المدن الصغيرة، حيث تنكمش المساحات وتتقلص الخصوصيات، لا تحتاج إلى عدسة مكبرة كي ترى أمراضنا الاجتماعية وهي تتمدد وتنتفخ كفقاعات من الصديد فوق جلد العلاقات اليومية. فكل شيء هناك قابل للملاحظة، للنقد، للتفسير الماكر، وللتأويل المسموم. نعيش في مجتمع يدّعي أنه متماسك ومتدين ومحبّ للخير، لكنه -في الواقع- لا يمر يوم دون أن يصيب أحدنا برصاصة معنوية تُطلق من بندقية صديق، أو تُطعن فيها الظهور بخناجر مبرّدة على نار الحسد.

الحقيقة أننا نعيش في مجتمعات صغيرة الحجم، كبيرة الجراح، نتقن فيها الإنكار كما لو كان فضيلة، ونمارس النميمة كما لو كانت فناً من فنون الحفاظ على التقاليد. بل إننا  -ويا للعجب-  قد نتحدث عن “الستر” ونحن ننتهك عرض جارنا في غيابه، ونمدّ ألسنتنا لنهش كل من رفع رأسه فوق السقف المعتاد للرداءة. وإذا حدث أن تألق أحدهم، فمصيبته الكبرى أنه أضاء؛ لأن النور يزعج العيون التي ألفت الظلام، والناس لا تسامح الناجحين في بلاد تهجّر فيها الكفاءة وتُمنح الميكروفونات للثرثارين.

أعداء النجاح لا يرتدون عباءات سوداء ولا يأتون من أماكن مظلمة، إنهم يلبسون مثلنا، ويحتسون القهوة مثلنا، ويبتسمون عندما نكون أمامهم، ثم يتحوّلون إلى محللي نوايا، خبراء في تشكيك أيّ خطوة، ومفسّري أيّ إنجاز باعتباره مجرد صدفة أو “علاقات”. وهناك دائماً من يرى في اجتهادك مشروعاً للغرور، وفي تميزك تهديداً شخصياً له، وكأنك سحبت قطعة من رغيفه دون إذن.

نحن نحلّل لأنفسنا ما نحرّمه على غيرنا، نغفر زلاتنا بحجة “كلنا بشر”، ونصلب غيرنا في ميدان العار العام بمجرد إشاعة أو سهو لفظي. نبرّر أخطاءنا بسوء الفهم، ونفسر أخطاء الآخرين على أنها مؤامرات مدبرة. نعيش مع فكرة أننا “أهل الخير”، لكننا في لحظة واحدة، نتحول إلى قضاته وجلاديه في آن.

الساخر في كل هذا أننا لا نرى في أنفسنا أي علة. نرى الآخرين وقحين، حاسدين، انتهازيين، ولا نلاحظ أننا نشاركهم نفس الأعراض. نغضب حين يُقال عنا ما نقوله عن غيرنا في المجالس المغلقة، ونثور حين يُفضح ما نفعله خلسة ونحن نمارس خطب العفة والفضيلة. والكارثة أننا نمارس الرقابة الاجتماعية وكأنها فرض ديني. لا يهم أن نصلح بيوتنا، بل أن نراقب بيوت الآخرين، أن نحشر أنوفنا فيما لا يعنينا، وأن ننصب أنفسنا وكلاء الله على الأرض بحجة أننا نعرف مصلحة الجميع… إلا أنفسنا.

المدن الصغيرة تحوّلت إلى ساحات تجارب نفسية حية، مختبرات لصراع الأنا، لمنافسات تافهة على لا شيء: من اشترى سيارة؟ من لبس جديداً؟ من سافر؟ من ضحكت معه فلانة؟ من نشر صورة سيلفي من المقهى؟ نمارس يومياً نوعاً من العبث الجماعي، حيث نعيد إنتاج الرداءة ذاتها، ونحاصر كل بادرة تحرّر أو تفكير مستقلّ، فقط لأنها لم تمر عبر المصادقة الاجتماعية. نُربي على السمع والطاعة، لا على الفهم والسؤال. نمنح جوائز الصمت، وننفّر من أي علامة على الاختلاف، لأننا ببساطة نرتاح في النسخ المكرورة.

المأساة أننا حين نشتكي من هذه الأمراض، نفعل ذلك وكأننا ضحاياها، لا كأننا شركاء في تعفنها. نكتب منشورات حزينة عن الحسد، ونحن نحسد، ونبكي على الأخلاق، ونحن نمارس الرداءة بمنتهى الإخلاص. نذرف الدموع على “زمن الطيبين”، ونحن نربي أجيالاً جديدة على نفس الكذبة: أن الكل طيب… إلا الآخر.

وبينما نمارس كل هذا العبث، نواصل دفن رؤوسنا في رمال الادّعاء، نرفع شعارات التعايش ونحن نمارس الاغتيال الرمزي، نتبادل التحيات في الصباح ونتداول الفضائح في المساء، ونعيش جميعاً في وهم كبير مفاده أن المشكلة… دائماً في الآخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.