الافتتاحية

مغرب الرخص: حين يُدان النبيذ وتُغتفر الرشوة السوداء

ضربة قلم

في مسرح العبث القانوني والاجتماعي الذي لا تنقصه الكوميديا السوداء، قررت سلطات مدينة مراكش مؤخرًا أن تُقدّم عرضًا جديدًا لجمهورها، هذه المرة بعنوان: “الفرنسي، الخمر، والمسلم العطشان!” رجل فرنسي من أصول جزائرية، ضُبط متلبسًا بجريمة “السقيا دون ترخيص”. لا، ليس في نهر أو بئر أو خزان ماء، بل في دار ضيافة فاخرة، حيث قدّم كأس نبيذ لأحد الزبائن، يُفترض -ويا للهول!- أنه مسلم!

هنا، تتوقف الدولة عن الاهتمام بالبطالة، وبأسعار المواد الأساسية، وبالأموال المنهوبة، لتتفرغ لملف خطير: مسلم شرب خمرا بدون أن يكون لدى الساقي ترخيص تجاري.

طبعًا، لم يسأل أحد الزبون إن كان متدينًا أو مجرد مستهلك يملك ذوقًا في النبيذ الأحمر، ولم يُطلب أحد فتوى من المجلس العلمي المحلي، فقط تم تفعيل القانون… ذاك القانون الذي ينام نومًا عميقًا حين يتعلق الأمر بالفساد والرشوة، لكنه يصحو صارمًا حين يشمّ رائحة “الخمور غير المرخصة”.

الغريب أن المتهم خرج بكفالة قدرها 1000 درهم فقط، أي أقل من قيمة ما قد ينفقه بعض الزبائن على مائدة عامرة في ليلة واحدة داخل مطعم مرخّص… الفرق الوحيد؟ الورقة الموقعة والضريبة المدفوعة.

في المغرب، الخمر ليس حرامًا قانونيًا، بل فقط غير مُصرّح به أحيانًا. والمشكل ليس أنك سكبت خمرا لمسلم، بل أنك فعلت ذلك دون أن تمنح الدولة نصيبها من “الرشفة”.

أما في دور الضيافة الأخرى، فتُقدم كؤوس السعادة بلا رقيب، لأن الرخصة موجودة، والزبائن من جنسيات متعددة، ولا أحد يهتم بـ”دينهم”.

النتيجة؟
فرنسي يُحاكم بتهمة بيع الخمر للمسلمين، بينما العشرات يُسقون يوميًا في وضح النهار، تحت أنظار القانون، فقط لأنهم يدفعون ثمن “الرخصة”… و”السكوت”.

هكذا تُختزل السيادة الدينية في وصل ضريبي، وتُصبح الأخلاق مرهونة بتوقيع إداري.

ومما يزيد المشهد عبثًا أن المشرّع المغربي، حتى لا نقول الفرنسي، لم يُجرّم “السكر” في حد ذاته؛ فالقانون لا يُحرك ساكنًا إذا شربت في صمت، بعيدًا عن الأعين والعدسات. المسطرة لا تُفتح إلا في حالتين: السكر البيّن، أي أن تُضبط وأنت تتمايل كراقص فلامنكو تحت المطر ولسانك لا يقوى على نطق جملة فصيحة دون أن يتلعثم، أو السكر العلني، أي أن تقارع الجعة أو ترفع نخبك للنبيذ أمام الملأ وكأنك في إعلان سياحي لدولة أخرى.
بمعنى آخر: اشرب ما شئت، لكن لا تسكر بوضوح، ولا تفعل ذلك أمام الناس… فالقانون المغربي لا يعاقب “الخطيئة”، بل يعاقب من يُخجل الدولة بها علنًا.

أما الحقيقة التي لا تُقال في محاضر الشرطة، فهي أن الساقي قليلًا ما يستفسر عن ديانة زبائنه، إذ من البديهي -في مناخ كهذا- أن يُنكر الزبون كونه مسلمًا خوفًا من الحرمان من الكأس، أو من جرّ ساقيه إلى تحقيق ديني/قانوني لا علاقة له بحرية الاختيار، بل كلّ العلاقة له بورقة لا تحمل ختم الإدارة.

وهكذا، نكتشف أن المشكل في المغرب ليس في الخمر… بل في الوثائق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.