مجتمع

ممثلو الشعب يبيعون السموم… والضحايا من أبناء الشعب!

ضربة قلم

في المغرب، تجارة المخدرات لم تعد مجرد “نشاط إجرامي” تمارسه عصابات مغمورة على الحدود أو في الدروب الخلفية للأحياء الشعبية، بل أصبحت مشروعًا مربحًا، منظَّمًا، مترامي الأطراف، يندس بين ثناياه من يُفترض بهم أن يكونوا مشرعين وحماة القوانين ووكلاء الأخلاق والنزاهة. المُخدِّر لم يعد مسحوقًا أبيض يمر عبر الحدود أو حشيشًا يُدس في شاحنات نقل علب السردين أو الخضر، بل صار رمزًا صريحًا لفشل الدولة في تطهير ذاتها، لدرجة أن من يُفترض بهم تمثيل الشعب أصبحوا يمثلون عليه.

نُصَاب فعلاً بالغثيان، لا حين نكتشف أن بعض الشباب أدمن المخدرات، بل حين نعرف أن موزعها نائب برلماني منتخب، جالس بين صفوف من يُفترض بهم أن يسهروا على تقنين حياة المواطنين. كيف يمكن لعقل أن يصدق هذا المشهد؟ نائب “شعب” يسهر على تسميم الشعب، رجل يُنتخب باسم الدستور ليمارس دور المافيا باسم النفوذ. إنه ليس مشهدًا من فيلم مكسيكي رديء، بل واقع يلطخ قبة البرلمان المغربي التي كانت فيما مضى تُمثل هيبة الخطاب السياسي، أما اليوم فأصبحت سقفًا فضفاضًا يتسع لكل من هبّ وتاجر.

من يتاجر في المخدرات بالمغرب؟ الجواب ليس واحدًا. هناك المهرب المحترف في جبال الريف، الذي نشأ على معرفة دروب التهريب مثلما يعرف الطفل طريق مدرسته، وهناك الوسيط الحضري الذي يملك “سجلًا تجاريًا” في توزيع السموم بين زقاق وزقاق، وهناك -والأدهى- من يملك حصانة برلمانية أو غطاء حزبي، ويفضل أن يهرب السموم على أن يناقش قانونًا، أو يوزع الممنوعات بدل أن يوزع الأمل. فمتى صارت الحصانة غطاءً لسمسرة العقول وبيع الخراب؟

أما المدمنون، فهم في الغالب الحلقة الأضعف في هذه الدوامة الحقيرة. شباب بلا أفق، بلا فرص، بلا أمل، يُطحنون في آلة البطالة والتمييز والفساد، ثم يُقدَّم إليهم “الدخان” و”القرقوبي” و”السيلسيون” كعزاءٍ أخير. المخدرات عند هؤلاء ليست ترفًا، بل وسيلة لتأجيل الانهيار، للهروب من واقع خانق. هناك من يدمن لأن واقعه أقبح من أن يتحمله بيقظة، وهناك من يدمن لأن الحي كله يدمن، لأنه لا بديل عن النسيان المؤقت، لأن لا أحد يهتم بما يفعلونه طالما لا يشتكون.

الضحايا إذًا ليسوا فقط المدمنين، بل أيضًا أسرهم، أمهاتهم اللاتي يذرفن الدموع كل ليلة، وآباؤهم الذين يخجلون من الهمس باسم الابن المدمن، وأطفالهم الذين سيكبرون ليجدوا أن الأب كان مجرد عابر في عالم الهروب الكيميائي. الضحية هو ذلك الحي الشعبي الذي تُرك بلا تنمية، بلا ثقافة، بلا دعم، ليصبح مجرد سوق لبيع الموت بالأقساط.

لكن الأكثر إثارة للغثيان هو حين يُقبض على تلميذ يتعاطى، فيُحاكم كأنه خطر على الأمة، بينما البرلماني التاجر يُمنح تغطية إعلامية ناعمة، وملفًا ثقيلًا “قيد التحقيق”، وقد يُفرج عنه لاحقًا بكفالة من الحجم البرلماني. هناك ميزان عدالة مقلوب، حيث يُعامل الصغير كوحش، والكبير كـ”سوء تفاهم إداري”.

وللأسف، لا يوجد شيء أكثر استفزازًا من مشهد برلماني يخرج من قاعة الجلسات، ليمارس في الخفاء توزيع الخراب. هو لا يبيع فقط حشيشًا أو أقراصًا، بل يبيع ما تبقى من هيبة المؤسسة، من مصداقية التمثيل، من ثقة المواطنين في أن ثمة من يُدافع عنهم.

في نهاية اليوم، حين نعود إلى صخب المدن وغبار المداشر، يظل السؤال عالقًا في الهواء الملوث: من يحمي الشباب من برلماني تاجر؟ من يحاكم ممثلي الأمة إن أصبحوا خصمًا؟ وكيف نقنع طفلًا في المدرسة أن السياسة شريفة، وأن القانون لا يُطبق فقط على الضعفاء؟

الجواب، كالعادة، يُطمر تحت البساط. والبرلماني التاجر قد يعود في دورة تشريعية جديدة، وربما بلون حزبي مختلف، لأن المغرب بلد “الفرص الثانية”… حتى لو كانت فرصة لتوزيع الخراب مجددًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.