مجتمع

مملكة “الطوبيس”: حين تتحول العربات إلى ممالك مستقلة

ضربة قلم

لا نبالغ حين نقول إن “الطوبيس” في مدننا لم يعد مجرد وسيلة نقل، بل أصبح كيانًا قائمًا بذاته، له قواعده الخاصة، له ملكه (السائق)، وحارسه (الكونترولور)، ورعاياه من المواطنين المتعبين، والطلبة الحالمين، والعمال الهاربين من الغياب، وحتى من لا مهنة له، سوى ركوب الطوبيس.

في هذه المملكة، لا مكان للشكوى. إن فاتك الطوبيس، فأنت المذنب الوحيد. وإن ركبته، فاعلم أن لا قوانين تحكم الأبواب المكسورة، ولا المقاعد المبللة، ولا الروائح التي تخترق الكمامات وتذكرك أن “الطوبيس” وطنٌ بديل… لكن بدون كرامة.

“السليت” : المقاومة الشعبية الحديثة

ووسط هذا الازدحام الخانق، تظهر فئة “السليت”، وهم أبطال عصرهم، يحملون رسالة: “الركوب حق، لا تذكرة عليه!” هؤلاء الشباب لا يدفعون، لا يعتذرون، بل يصعدون بثقة لا تهزها حتى نظرات الكونترولور المشتعلة.

العجيب أن الظاهرة أصبحت نسائية بامتياز في كثير من المدن، سيما الدار البيضاء، فبينما ينتظر الشبان لحظة غفلة ليتسللوا من الباب الخلفي، تجد “المدوزات” يدخلن أمام أعين الجميع، وأحيانًا يفتحن الباب بأنفسهن إن تأخر السائق في فتحه. ملامحهن لا تعترف بالقوانين، وحقائبهن أكبر من نواياهن.

الطلبة: من المعاناة إلى المهانة

أما الطلبة غير المنخرطين، فهم الفئة التي لا تعرف إن كانوا يدفعون ثمن النقل أم ثمن إذلال يومي. يحملون محافظهم وكرامتهم، لكن لا مكان لهم إلا واقفين مثل الأعمدة، يُدفعون من كل جهة، ويُنظر إليهم كحمولة زائدة. لا يُعفون من الدفع ولا يُمنحون مقاعد… كأنهم غرباء عن الوطن.

العمال: رحلة إلى اللاشيء

العمال يُسابقون الشمس في طلوعها، لكن “الطوبيس” أبطأ من أحلامهم. يقفون في طوابير طويلة، لا ينقصها سوى آلة لأخذ “البصمة”. ومع ذلك، يصل بعضهم متأخرًا لأن الطوبيس إمّا لم يأتِ، أو مرّ مليئًا عن آخره، مكتفيًا بالتلويح لهم: “أنا معذور، أنتم زائدون عن اللزوم”.

السائق: الملك الغاضب

في قلب هذه المملكة، يجلس السائق: ملك الطوبيس، حاكم الزمن والمقاعد، حارس السرعة والمطبّات. مزاجه كفيل بأن يحوّل الرحلة إلى كابوس أو إلى عزاء. يصرخ، يسب، يدخّن أحيانًا، ويقود كما يقود مخرج أفلام حركة… بدون مؤثرات.

نهاية غير سعيدة

حين تنزل من الطوبيس، تشعر أنك عبرت معركة… ليس لأنك وصلت إلى وجهتك، بل لأنك نجوت. تسير مترنحًا، بظهر مائل وكتف مصدوم، وربما نفسية مدمّرة… لكنك تقول لنفسك: “غدًا سأحاول من جديد”.

هل هناك أمل؟

نعم، الأمل موجود، لكنه محشور في زحمة الطوبيس رقم 6، لا صوت له وسط الضجيج. ولعله لن يصل إلا إذا قرر المسؤولون أن “الركوب بكرامة” ليس رفاهية، بل حق.

حتى ذلك الحين، تبقى مملكة الطوبيس قائمة: فيها الكراسي المعطوبة، الركاب المتشابكون، والسلطات الغائبة.

لكن من يدري؟ ربما يأتي يوم يتحول فيه “الطوبيس” من عربة مذلة إلى مركبة وطنية محترمة. وربما نغني فيه، لا نشكو منه.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.