مجتمع

مملكة بني وي وي: حيث يعلو صوت التطبيل ويُقبر الضمير

ضربة قلم

في مغرب العقدين الأخيرين، لا تكاد تخلو زاوية من زوايا الحياة العامة من كائنات تعرف شعبيًا بلقب “بني وي وي”؛ تلك الفئة التي تتقن فن الانحناء في الوقت المناسب، وترفع شعار “معاكم حتى آخر تصفيقة” دون حياء أو خجل. لم تعد هذه الظاهرة مجرد سلوك فردي معزول، بل صارت منظومة قائمة بذاتها، متغلغلة في مفاصل الإدارة، السياسة، الصحافة، والمجتمع المدني. نتحدث هنا عن جيش من المتسلقين والمنافقين، ممن يدّعون الوطنية وقت الحاجة، ويتقنون مسح الأحذية -حرفيًا ومعنويًا- حين تتطلب الظروف ذلك. إنهم لا يؤمنون بشيء سوى مصلحتهم الخاصة، ويتحولون حيثما مالت الرياح، دون بوصلة أخلاقية أو انتماء حقيقي، بل بقدرة عجيبة على تكييف مواقفهم بما يُرضي من بيده “الزر”، لا من بيده الضمير.

هؤلاء ليسوا وطنيين، وإن تلحفوا بالأعلام وتغنّوا بالنشيد الوطني حتى نشزت أصواتهم. ليسوا أصحاب مبدأ، وإن أكثروا من الحديث عن القيم حتى فاقوا سقراط فلسفة. لأنهم، ببساطة، لا يهمهم إلا أنفسهم، ولا يرون الوطن إلا حائطًا ليتسلقوه، أو سلّمًا ليصعدوا على أكتاف من هم أحقّ وأجدر. هم المتطوّعون الدائمون لأداء “الواجب الوطني” إذا كان ذلك يعني حضور حفلة، نشر صورة، توقيع بيان، أو تقديم خدماتهم في التزويق والتلميع. وهم، في الغالب، أول من يفرّ من المركب إذا لاح لهم دخان، وأول من ينقضّ على فريسة إذا لمحوا عظمًا يمكن أن يُلعق.

ومع ذلك، لا نخلط بين هؤلاء المتسلقين المصفقين وبين أولئك الوطنيين الحقيقيين، الذين قد يرفعون صوتهم بالنقد، لكنهم لا يساومون على مبادئهم، ولا يبيعون الوطن مهما ضاق بهم الحال أو طال بهم اليأس. فالوطن، عند هؤلاء، ليس مجرد فرصة للترقي أو التربح، بل التزام أخلاقي لا يخونونه حتى لو وجدوا أنفسهم وحدهم في الساحة.

أخطر ما في هؤلاء ليس ضجيجهم، بل صمتهم المدروس. إنهم لا يتكلمون حين يجب أن يُقال الحق، ولا يعترضون حين تداس القوانين، بل ينتظرون فقط التعليمات: من فوق، من تحت، أو من أي اتجاه، المهم ألا يكونوا خارج السياق. وأحيانًا، بل كثيرًا، يصنعون سياقهم بأنفسهم، فيخلقون وهمًا اسمه “الرأي العام”، يبنون حملات تمجيد فارغة من المضمون، ويصيرون فجأة خبراء في الاقتصاد، والدبلوماسية، والتنمية، بل وحتى الأخلاق. ويعلّموننا -نحن السذج في نظرهم-  كيف نحب الوطن!

لا تُفهم الجرأة عندهم على أنها تمرد أو وعي، بل على أنها تجاوز للحدود. الحد هو ما يرسمه من يملكون “السلطة”، حتى ولو كانت سلطة فرعية، حتى ولو كانت سلطة نادل مقهى في إحدى المؤسسات العمومية. هم يتقنون اللعبة القديمة: “قل نعم تعيش”، يرفعون شعار “من دار المخزن خرج ما ضرّش”، ويعلمون أبناءهم أن الولاء أضمن من الكفاءة، وأن البطاقة الحزبية أهم من الشهادة الجامعية، وأن النفاق أذكى من الصراحة.

بنو وي وي لا يعيشون فقط بيننا، بل يزدهرون في مناخات الرياء، في فوضى المعايير، في صمت الأغلبية الصامتة، في خنوع من يعتقدون أن الصدام مع الباطل خسارة، حتى ولو كانت الكرامة هي الثمن. هؤلاء لا يُستأصلون بسهولة، لأنهم يتقنون فنون التلون، ويدخلون تحت الجلد كما تدخل الإشاعة، ويتمددون كما يتمدد العفن في رغيف خبز رطب. ولا تخدعك ابتساماتهم، ولا تشفع لهم أناقتهم، فهم يمشون بين الناس في هيئة محترمة، لكنهم  -في حقيقتهم-  لا يختلفون عن الجواسيس العاطفيين الذين يبيعون أنفسهم لمن يدفع أكثر، أو لمن يوفر حماية أكثر.

هم أول من يصفّق في قاعة اجتماع لمشروع فاشل، وهم من يصفّق بحرارة أكبر إذا أُلغي المشروع، فقط لأن “المسؤول تغيّر”. وهم من يعيد كتابة الروايات كلما تغيّرت المواقع، ويصيرون فجأة معارضين شرسين بعد أن كانوا مطبّلين مخلصين. وبقدرة قادر، يتحولون إلى خبراء في كشف الفساد بعد أن كانوا شهود الزور عليه، وإلى دعاة أخلاق بعد أن كانوا وسط الرقص والمجون في الحفلات الرسمية، وإلى مفكرين بعد أن قضوا سنواتهم يبلّلون المقاعد في حضن الإدارة دون أن ينطقوا بجملة مفيدة.

كلما أسرعت في التطبيل، كلما كنت أول من يُحتقر. هذه قاعدة يعرفها حتى المخزن نفسه. قد يستفيد منك بعض الوقت، يستغلك، يصفق لك أمام الكاميرا، يبتسم لك في مناسبة، يمنحك منصبًا مؤقتًا أو لقبًا مزيفًا، لكنه في قرارة نفسه لا يثق بك. يعرف أنك لست صادقًا، أنك تفعل كل هذا لهدف ما، ومتى غاب الهدف أو تغيّر الاتجاه، ستغير ولاءك كما تغير قميصك. والمخزن -مهما قيل فيه- لا يثق في من لا وفاء له، ولا يحترم من لا يحترم نفسه. بل إنه يفضل خصمًا صريحًا على متزلف منافق، لأن الخصم الواضح يمكن التفاوض معه، لكن المتقلب، المتلوّن، المزيف، فذاك لا يُركن إليه في الرخاء ولا يُطمأن له في الشدة.

ويا لخيبة من يظنون أن الزمن يحابي المهرولين. لا، الزمن يسجل، الزمن يراكم، الزمن يفضح، وحتى لو طال الانتظار، فإن وجوههم ستسقط أقنعتها، وستتلوّن بالعار بدل الألوان الزاهية. كل تصفيقة كاذبة، كل مجاملة متملقة، كل خذلان للحق، سيتحوّل يومًا ما إلى لعنات مكتومة في ذاكرة هذا الوطن. فلا وطن يبنى على المنافقين، ولا مجد يتحقق على أكتاف الانبطاحيين.

وإن كنا نُكثر من الضحك عليهم اليوم، فإننا نعلم أن ضحكاتنا حزينة، ساخرة، لكنها واعية. وعيٌ لن يُمحى، بل سيتحول يومًا ما إلى فعل، إلى رفض، إلى قطيعة كاملة مع هذا النموذج الممسوخ من “الناشط” و”الصحافي” و”الإداري” و”المسؤول” و”الفاعل الجمعوي” الذي لا يجيد شيئًا سوى قول “نعم” و”نعم اس” و”الله يطول عمرك”. فكرامتنا أكبر من تملقهم، ووطننا أسمى من مصالحهم، والتاريخ -كما يقولون- لا يرحم.

نحن مع الوطن، مع وحدته الترابية من طنجة إلى الكويرة، ومع كل مشروع تنموي صادق يدفع البلاد إلى الأمام. لكننا لسنا مع من يختبئون خلف الشعارات الوطنية لسرقة خيرات الشعب، ولسنا مع من يجعلون من “حب الوطن” سلعة مربحة في سوق الفساد. الوطنية الحقيقية لا تُقاس بعدد الرايات التي ترفرف على أسطح الشركات المشبوهة، بل تُقاس بالضمير، بالنزاهة، وبالعمل الجاد الذي يخدم المواطن قبل أن يخدم الجيوب المنتفخة.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.