مجتمع

مملكة سيدي محمد المليح: عندما تصبح المقبرة مشروعًا استثماريًا!

بين الماضي والحاضر: مقبرة أم إمبراطورية؟

ضربة قلم

لو بعث الموتى من مراقدهم لوهلة في مقبرة سيدي محمد المليح، لما صدّقوا ما آل إليه حال مدفنهم الأبدي. فقد تحوّل المكان من مساحة روحانية إلى مشروع “اقتصادي” بامتياز، تدار فيه المصالح وفق ميزان “من يدفع أكثر”، وترسم فيه الحدود العائلية بمزاج حفنة من الأعوان الذين أصبحوا حكّامًا بأمرهم. إنها ليست مجرد مقبرة، بل مملكة قائمة بذاتها، حيث المال يتكلم أكثر من الأموات أنفسهم!

مقارنة لا تليق، ولكن!

من العبث أن نقارن مقبرة المسلمين المهملة بالمقبرة الفرنسية التي تحظى برعاية دورية، وكأن الموتى هناك يمتلكون عقود ملكية أبدية في حين أن الموتى هنا مجرد أرقام في دفتر منسي. لكن دعونا لا نلقي باللوم على الموتى؛ فهم لم يطلبوا سوى القليل من الاحترام الأبدي، وهو ما يبدو رفاهية في مملكة سيدي محمد المليح.

التاريخ يُعيد نفسه، ولكن مع تعديلات رأسمالية!

في الخمسينات، كان سجن “لكريمة” في القصبة يخصص يوميًا معتقلين لصيانة المقبرة الفرنسية، في مشهد قد يبدو غريبًا لكنه يؤكد مدى احترام المكان حتى من طرف الاحتلال نفسه! أما اليوم، فإن جماعة المحمدية لا تخصص سوى التجاهل التام لمقبرة المسلمين، تاركة الأمور لموظفين غائبين وأعوان حوّلوا المقبرة إلى استثمار شخصي.

عندما تتحوّل القبور إلى عقارات فاخرة!

بما أن منطق السوق أصبح سيد الموقف، فمن الطبيعي أن نشهد ظهور مقابر “VIP” محجوزة مسبقًا لعائلات بعينها. قبور أنيقة مزخرفة، محاطة بسياجات حديدية وكأنها ممتلكات خاصة، في حين يُترك الفقراء لمصيرهم بين الحفر والكلاب الضالة والثعابين. هل هناك رقابة؟ طبعًا لا! فمن يحاول البحث عن سجل القبور يُقال له إن “المحافظ” يحتفظ به، وكأن الرجل حاصل على شهادة من جامعة أوكسفورد في إدارة المقابر!

الموظفون الأشباح: حاضرون بالراتب، غائبون عن الخدمة!

الموظف الجماعي المكلف بإدارة المقبرة نادرًا ما يُرى، فهو دائم الانشغال بسيارته الجماعية وبنزينه المدفوع من المال العام، بينما تُترك مسؤولياته بين يدي أعوان باتوا يقررون من يُدفن أين، وبأي تكلفة. تسأل عن إمكانية ترميم قبر، فتجد نفسك أمام تسعيرة وكأنك تحجز غرفة فندقية، وتجد أن للصيانة “تسعيرة خاصة” لا تشملها الميزانية الجماعية.

الماء لمن يدفع فقط!

في هذه المملكة العجيبة، حتى الماء ليس مجانيًا. إذا أردت خمس لترات لسقي قبر فقيدك، فعليك دفع عشرة دراهم، لأن تركيب صنابير مياه عمومية لا يدخل ضمن أولويات إدارة المقبرة. العطش هنا لا يقتصر على الأحياء فقط، بل يبدو أن الأموات أيضًا يعانون في صمت!

عصابات المقبرة: التوظيف مشروط بالرشوة!

لا تتوقع أن تحصل على عمل داخل المقبرة بسهولة، إلا إذا كنت مستعدًا لدفع “الرسوم” غير الرسمية للعصبة الحاكمة هناك. حفارو القبور، صائنو القبور، وحتى بائعو الأزهار كلهم يخضعون لقانون غير مكتوب، يمنع أي وافد جديد من دخول هذا المجال دون دفع “الحلاوة”، فالأماكن محجوزة مسبقًا لعائلات بعينها، كما لو أن المقبرة ورثت نظامها الإداري من ممالك العصور الوسطى!

الحل: هل من بارقة أمل؟

إذا كانت المقبرة الفرنسية تُدار وفق معايير صارمة، فلماذا لا نطالب بنفس الشيء لمقبرة سيدي محمد المليح؟ الحل يكمن في تشكيل لجنة مراقبة تضم موظفين نزهاء، تفرض رقابة صارمة على إدارة المقبرة، تمنع تخصيص القبور للعائلات، وتعيد المياه المجانية إلى زوارها. آن الأوان لكسر هذا النظام العشوائي وإعادة الكرامة للأموات قبل أن يتحوّلوا إلى “مادة استثمارية” في أيادي تجار المقابر!

الخاتمة: متى ينتهي هذا العبث؟

في النهاية، المقابر ليست مجرد مساحات ترابية، بل أماكن تحفظ كرامة الموتى وتعكس مستوى احترام المجتمع لمواطنيه حتى بعد الرحيل. إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فقد نصل إلى يوم نحتاج فيه إلى تقديم طلب مسبق ودفع وديعة مالية لضمان مكان لنا في هذه المملكة العجيبة، حيث كل شيء يُباع، حتى الرحيل الأبدي!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.