مجتمعسياسة

ممنوعون من العيش الكريم: الكابوس الذي أصبح واقعًا 

محمد صابر

الكعكة تُقتسم في وضح النهار، فوق خشبة المسرح، حيث يجلس أولئك الذين تسللوا إلى عالم السلطة والمال كما يتسلل اللصوص إلى بيت نائم. بأسماء أصبحت معروفة، بوجوه لا تخجل، بأصوات جهورية تتحدث عن الوطنية والتضحية، فيما أيديهم تمتد إلى كل خيرات البلاد، ينهشون منها بلا توقف. لا يختبئون، لا يتخفون، لا يحاولون حتى تزييف المشهد. يجلسون أمام الشعب مباشرة، يوزعون على بعضهم البعض أطباقًا من الثروات، كأنهم في مأدبة ملكية، يقهقهون، يتلذذون بكل لقمة، فيما الجوعى يتابعونهم بأعين ذابلة، وهم يزدردون ريقهم اليابس.

في هذا المشهد الفج، لم يعد هناك حياء. لم تعد هناك حتى مسرحية تُدار خلف الكواليس. لا، هذه كوميديا سوداء تُعرض مباشرة أمام من لا يملكون ثمن تذكرة الحياة. كبارهم يوزعون الصفقات الكبرى، وأصغرهم يتسابقون على المناصب العليا والغنائم، يُلقون ببعض الفتات لقيدومي اليساريين، أو لأوفياء من الخدم، ثم يُكملون التهام كل شيء. البنوك، الأراضي، المشاريع، المناجم، الرخص، الصفقات، المقاولات الكبرى، بل حتى المخدرات، وكل ذلك يُوزع كأنها جوائز في حفلة لا تنتهي، فيما الغالبية العظمى من الشعب يُقلب كفيه، يبحث عن ما يسد به رمق يومه.

وحين يطول الجوع، وحين يصبح الفتات أقل من اللازم، لا يجد الشعب أمامه سوى أكل لحم بعضه البعض. الأخ يخدع أخاه، الجار ينهش جاره، الفقير يسلب من هو أفقر منه، والغني يزداد غنىً لأنه يُدير هذه اللعبة القذرة بذكاء. إنها ليست مجرد أزمة اقتصادية، إنها إعادة هندسة للمجتمع ليكون ساحة قتال بين المحرومين، بينما المستفيدون يراقبون المشهد من أعلى، يضحكون ملء أفواههم الممتلئة.

وحين يسأل أحدهم: كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ يأتيه الجواب المعتاد: الأزمة عالمية، يجب علينا أن نصبر، أن نتقشف، أن نتحمل. لكن لا أحد يشرح لماذا لا يتقشفون هم، لماذا لا يعانون كما تعاني البقية، لماذا لا تمسهم الأزمات، لماذا لا ينقص شيء من موائدهم العامرة؟ لماذا الوطن يعني الحرمان حين يتعلق الأمر بالشعب، لكنه يعني الغنائم حين يتعلق الأمر بهم؟

الشوارع لم تعد تحتمل مزيدًا من البؤس، والمستشفيات لم تعد تحتمل مزيدًا من الأجساد المتعبة، والمدارس صارت مجرد بوابات إلى البطالة، والرواتب أصبحت مهزلة، والأسعار ترتفع كأنها تسخر من جيوبنا الفارغة. ومع ذلك، يجلسون فوق الكعكة، يوزعونها كما يحلو لهم، ويطلبون منا أن نصفق لهم لأنهم “يحكموننا بحكمة”.

لكن السؤال الحقيقي ليس كيف وصلنا إلى هنا. السؤال هو: إلى متى سنبقى هنا؟

حين نتحدث عن العيش الكريم، فإننا لا نتحدث عن ترف أو امتياز خاص يمنح للبعض ويُحجب عن آخرين، بل نتحدث عن الحد الأدنى الذي يضمن للإنسان ألا يكون عبداً للقمة العيش، وألا تتحول الحياة إلى معركة يومية من أجل البقاء. ومع ذلك، هناك من يريد أن يقنعنا بأن الفقر قدرٌ محتوم، وأن البؤس ليس نتيجة لخيارات سياسية واقتصادية متعمدة، بل مجرد “حالة اجتماعية” عابرة، كأننا نتحدث عن فصل من فصول السنة وليس عن منظومة كاملة صُممت لتُبقي القليل في القصور، والكثير في القبور.
في الوقت الذي يُحرم فيه الكثيرون من لقمة العيش، فإن أولئك “المحظوظين” الذين يحصلون على وظائف يجدون أنفسهم في طاحونة لا ترحم. يعملون بلا حقوق، بلا أمان وظيفي، برواتب تكاد لا تكفي لسد فواتير الكهرباء والماء، ناهيكم عن الكراء أو غول الكمبيالات الشهرية أو التعليم أو العلاج. يُطلب منهم التضحية كل يوم، باسم الإنتاجية، باسم الوطنية، وباسم أي شعار آخر يجدونه مناسبًا لتبرير استغلالهم. ومع ذلك، حين يطالبون بحقوقهم، يوصمون بأنهم مشاغبون، غير وطنيين، وأن مطالبهم “غير واقعية”.
المستشفيات الحكومية؟ مقابر مؤقتة للفقراء، حيث يُترك المريض يصارع المرض وحيدًا، في انتظار دوره الذي قد لا يأتي أبدًا. أما العيادات الخاصة، فأسعارها ليست لأصحاب الأجور المتواضعة، بل لأولئك الذين لم يذوقوا طعم العيش المرّ. في هذا النظام، المرض يُصبح امتيازًا، فإما أن تكون غنيًا لكي تعالج، أو أن تتحلى بـ”الصبر الجميل” حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
أما عن التعليم، فيمكنك أن ترى المشهد بوضوح: مدارس خاصة لأولاد الطبقات النافذة ومدارس خاصة لأولاد الطبقة المتسللة، حيث يتعلمون اللغات والمهارات التي ستضمن لهم السيطرة على الاقتصاد والوظائف العليا مستقبلاً. أما أبناء الطبقات المحرومة، فتُفتح أمامهم مدارس عمومية لا تقدم سوى الحد الأدنى، بإمكانيات متواضعة، وفضاءات غير مهيأة، ومناهج تُنتج طوابير من العاطلين الذين لن يجدوا أمامهم سوى أبواب الهجرة السرية، أو العمل غير المستقر، أو العيش تحت رحمة برامج تشغيلية مؤقتة تجعلهم دائمًا على حافة الفقر.
وإذا قُدّر للإنسان أن يُكمل مشوار العبودية هذا حتى سن التقاعد، فماذا ينتظره؟ مجرد معاش هزيل، لا يكفي حتى لتغطية تكاليف الأدوية التي سيحتاجها بعد عقود من الإرهاق. بل الأسوأ من ذلك، أن الإدارة نفسها التي خدمها طوال حياته، لم تعد تعرفه باسمه، بل تناديه برقم تقاعده. لا امتيازات، لا احترام، لا شيء سوى التهميش والإذلال.
حين نقول “نريد العيش الكريم”، فإننا لا نطلب المستحيل. نحن لا نطلب أن تتحول الحياة إلى جنة، بل أن تتوقف عن كونها جحيمًا. نريد أن نعمل بكرامة، أن نعيش دون أن نمد أيدينا، أن نمرض دون أن يكون ذلك حكماً بالإعدام، أن نُعلم أبناءنا دون أن يكون مستقبلهم مرهونًا بمدى قدرتنا على دفع أقساط مدارس النخبة.

لكننا نعلم أيضًا أن هذا النظام لن يمنحنا ذلك طواعية، لأنه لا يعيش إلا باستمرار الظلم، ولا يزدهر إلا حين يُحكم قبضته على موارد البلاد ويُحكمها باسم “الاستقرار”. لذلك، فإن “ممنوعون من العيش الكريم” ليست مجرد حالة، إنها معركة يجب أن تُخاض، وحقٌ يجب أن يُنتزع، لأن الحقوق لا تُمنح، بل تُؤخذ.

إما أن نستمر في العيش كمتفرجين على هذه المسرحية العبثية، نكتفي بالتصفيق حين يطلبون منا، ونغضب حين يسمحون لنا، ثم نعود إلى مقاعدنا كأن شيئًا لم يكن، نراقب ذات الوجوه تقتسم الغنائم، وذات الأيدي تسرق خيراتنا في وضح النهار وتعبث بمصائرنا، وذات الأصوات تبيع لنا الأكاذيب المغلفة بالوعود. أو أن نقرر، ولو لمرة واحدة، أن هذه المسرحية لن يُكتب لها فصل جديد إلا بأيدينا، وأن الستار لن يُرفع إلا حين نكون نحن من يحدد المشهد، أن النهاية لن تكون مكتوبة سلفًا، بل سنصوغها نحن، بالكلمة، بالموقف، بالرفض، وبالإصرار على أن هذا الوطن ليس مزرعة خاصة، وأن من استنزفوا خيراته لعقود لا يحق لهم أن يقرروا وحدهم مستقبل من سيعيشون بعدهم.

الاختيار، كما كان دائمًا، لم يكن يومًا في أيديهم فقط، بل ظل بيد من يرفض أن يكون مجرد تفصيلة هامشية في كتاب التاريخ، بيد من يرفض أن يعيش ممنوعًا من الحياة الكريمة، بيد من يدرك أن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن من يرضى بالقليل لن يرى يومًا ما يستحقه حقًا.

نعبر عن إحساسنا، وليحصل ما سيحصل، لأن الصمت لم يكن يومًا حلًا، ولأن من يقبل الذل مرةً سيعتاده دائمًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.