منجل الزعتر: جريمة بطعم الأعشاب والدم!

ضربة قلم
آهٍ يا زعتر البلاد… ما كنتَ تدري أنّ عطرك سيُسيل الدم، وأن خصالك الشفائية ستنقلب على حين فجأة إلى نذير موت. جريمة أخرى تهز دواوير المغرب العميق، لكن هذه المرة ليس بسبب قنطار من الذهب ولا فدان من الحشيش، بل بسبب “قبضة زعتر”. نعم، زعتر، تلك النبتة البريئة التي طالما استعان بها أجدادنا لعلاج الزكام والتخفيف من نوبات السعال… صارت اليوم عنوانًا لحرب قروية لا ترحم، وسكينًا في خاصرة الوطن المنسي.
دوار “بوشعيب” بتازارين، جماعة ترابية تقبع في حضن الجبال كمنفى اختياري لكل من قرر الهروب من ضوضاء المدن، استفاق صباح اليوم لا على زقزقة العصافير ولا على زغرودة عروس، بل على صرخة موت خمسيني، قضى نحبه بسبب نزاع “عشبي” تحوّل إلى معركة دامية. والقاتل؟ لم يكن ذئبًا ولا مجرمًا محترفًا ولا أحد الهاربين من سجون كولومبيا، بل “ولد الدوار”، جار، وصديق بالأمس، وحشٌ بالمناجل هذا الصباح.
في زمن الندرة، كل شيء يتحول إلى كنز: شبر من الأرض، عرق شجرة، نبع ماء، وحتى نبتة زعتر. لا حديث هنا عن السيليكون فالي ولا عن الذكاء الاصطناعي، بل عن قرية تُزهق فيها الأرواح من أجل عشبة. والنتيجة؟ دم ينزف على تراب البلاد، منجل مضرّج بالجريمة، وأمهات يُلملمن كرامة ابنائهن من على رصيف الجبل.
القصة كلها بدأت كأي نزاع روتيني بين فلاحين، ثم ارتفعت الحرارة فجأة، كأن لعنة المناخ ضربت أعصاب أحدهم، فاستل منجله لا ليحصد الزرع، بل ليحصد روحًا بشرية. ضربة واحدة من الخلف، وكأن الطعن في الظهر صار جزءًا من تقاليد المواسم. نزيف، ارتطام على الأرض، صمت رهيب… ثم صدمة عمّت الدوار. “ها علاش كنقولو بلاش نزع الأعشاب فالصباح”، قالها عجوز وهو يمضغ بقايا أمل.
ولك أن تتخيل المشهد: رجال الدرك يصلون، يحيطون بمسرح الجريمة، جثة مغطاة بثوب مهترئ، جيران في حالة وجوم، وكاميرات الهواتف تبدأ في التقاط الصور، لا للذكرى، بل لخلق “المحتوى”. أما الجاني، فمكبّل بالأغلال، ينظر إلى يديه، لربما لم يستوعب بعد أنه قتل إنسانًا من أجل نبتة تساوي في السوق عشرين درهما للكيلوغرام.
لكن القصة ليست فقط عن الزعتر، ولا عن المنجل، ولا حتى عن القاتل والقتيل. إنها حكاية بلد لا يزال يصرّ على ترك مواطنيه يتصارعون كحيوانات في الغابة على ما تبقى من الطبيعة. في القرى النائية، حيث يغيب التخطيط وتغفو الدولة في قيلولة دائمة، تصبح الأشجار موضوع خلاف، وتتحول الجبال إلى ساحة قتال.
هؤلاء الناس، لا يطلبون الكثير. لا جامعة، لا مستشفى، لا مركز ثقافي، فقط يريدون أن يجنوا ما ينبت تحت أقدامهم دون أن يُقتلوا. لكن يبدو أن حتى هذا الحلم البسيط صار رفاهية. والكارثة؟ أن هذا النوع من الجرائم صار يتكرر: بالأمس على نبع ماء، قبله بسبب عنزة تجاوزت الحدود، وقبلها شجار على ظل شجرة زيتون.
كل ذلك يعيدنا إلى السؤال المُرّ: من المسؤول؟ هل هو القاتل وحده؟ أم أن الدولة التي تركت الدواوير تتقاتل على فتات الأعشاب لها نصيب من الجريمة؟ وهل قدر “المغرب غير النافع” أن يبقى مسرحًا للتراجيديا القروية التي لا تنتهي؟
التحقيق سيفتح، الجثة ستُشرح، الجاني سيُحاكم، وربما يُدان. لكن ماذا بعد؟ هل سيتوقف النزيف؟ هل سنرى برامج جادة لاحتواء النزاعات حول الموارد الطبيعية؟ أم سننتظر الجريمة القادمة، على نبتة أخرى، وربما على ظل شجرة؟
هكذا نحن، في بلاد تُزهق فيها الأرواح لأسباب أقرب إلى العبث، ونظل نتساءل بمرارة: “فين وصلاتنا نبتة الزعتر؟”.