من الحاجز الخشبي إلى الحاجز العقلي: سيرة حبٍّ مستحيل بين المواطن والإدارة

ضربة قلم
لم تترك لنا الحماية الفرنسية فقط أسماء شوارع كـ”كولبير” و”لامارتين”، ولا معمارات رومانسية مزركشة، بل تركت لنا إرثًا أعظم وأدهى: العداوة المقدسة بين المواطن والإدارة. ذلك الغول الإداري الذي لا يفترسك مباشرة، بل يلتهم أعصابك قضمة قضمة، بينما يبتسم الموظف وهو يطلب منك نسخة طبق الأصل من شهادة الميلاد التي أخرجتها لتوك من جيبك قبل 10 دقائق.
منذ زمن الحماية، كان الفرنسي يهوى وضع الحواجز. ليس لأنه يخاف من الشعب، بل لأنه يحب النظام… ذاك النظام الذي يضعك دائمًا على الجانب الخطأ من الخشبة. الحاجز الخشبي لم يكن فقط قطعة ديكور بيروقراطي، بل كان فلسفة حياة: الموظف على العرش، والمواطن في القبو. الموظف يقف على خشبة، ربما حتى فوق صناديق البريد القديمة أو أكوام من ملفات تعود لعهد السلطان مولاي يوسف، بينما أنت، المواطن المسكين، تقف وأنت تنظر للأعلى كما لو أنك في زيارة لمقام ولي صالح: “سيدي الموظف، جئت أطلب بركتك في توقيع بسيط، لا أريد الدنيا وما فيها، فقط أن تُحرّك معجزة الحبر على الورقة.”
ثم جاء الاستقلال، حيث كنا نعرف من نحقد عليه. أما بعد الاستقلال، فقد لبس الموظف المغربي بدلة “الحامي” وأمسك المشعل، لا للاستنارة، بل ليُلهب به ظهر المواطن. تحوّل الحاجز من خشب إلى زجاج مضاد للرصاص، ثم إلى روح متجبرة تفصلك عن من يفترض أنه “خادم الدولة”. أصبحت الإدارة مثل زيارة الطبيب النفسي في رواية كافكا: أنت لا تعرف لماذا جئت، ولا ماذا سيحدث، ولكنك تعلم أنك ستخرج محطم الأعصاب وجيوبك فارغة وكرامتك مجروحة.
أما البيروقراطية، فهي ليست آلية تسيير، بل أسلوب تعذيب بطيء. تُرسل ورقة من مكتب إلى آخر، تقضي شهرًا تتجول في البناية، وعندما تعود إلى مكتب الانطلاقة، تكون قد وُقعت من الجميع… ما عدا الشخص الوحيد المعني بالأمر، لأنه في عطلة مرضية منذ عهد حكومة عبد الرحمن اليوسفي. المحسوبية؟ أوه يا صديقي، تلك ليست انحرافًا، بل جزء من الدستور غير المكتوب. “عندك شي واحد؟” هو السؤال الذي يُفتح به كل ملف. إن أجبت بـ”لا”، يُقفل الملف في الحال ويرسل إلى الأرشيف الأبدي… حيث تُدفن الطلبات وتُقرأ الفاتحة على الحقوق.
وما أدراك ما “الميز الداخلي”، ذاك السمّ الذي يجعل الموظف يعاملك حسب شكلك، اسمك العائلي، اللهجة التي تتحدث بها، وربما حتى رائحة عرقك. فإن كنت من أصحاب “السعادة” أو أبناء المحظوظين، فالقهوة تُقدّم لك في الكأس وتُوقع الأوراق بسرعة البرق. أما إن كنت “ولد الشعب”، فالملف يُفتَح بـكلمة “عَوْدْ غَدّا” ويُغلق بكلمة “سير دْبّر راسك”.
أما الغبن، فهو الزينة التي لا تكتمل بدونها زيارة أي إدارة. تشعر أنك غير مرئي، أنك عبء على الموظف، أنك غلطة في دفتر حياته. تنظر حولك، ترى الصور المعلقة للملوك، تراها تراقبك بنوع من الحزن، كأنها تسألك: “كيف وصلنا إلى هنا؟” وربما تسأل هي الأخرى الموظف: “واش عيب عليك؟”
ثم تأتي اللحظة التي تنفجر فيها: بعد انتظار خمس ساعات، بعد طردك من الشباك لأنك نسيت “التمبر”، بعد أن سمعت الموظف يتحدث في الهاتف لمدة نصف ساعة عن الكسكس والعرس والدوخة، بعد أن نُهرِت لأنك لم تكتب الحرف في الخانة الصحيحة… تقول في نفسك: “آش هاد البلاد؟” وتخرج بخطى بطيئة كأنك نجوت من مذبحة.
ومع ذلك، نعود. دائمًا نعود. لأننا نحتاج “ورقة”. والورقة صارت رمزًا وجوديًا، مثل الأوكسجين. بدونها لا تشتري دار، لا تفتح حسابًا بنكيًا، لا تتزوج، لا تموت. تموت بلا ورقة؟ ممنوع. خصك شهادة الوفاة.
فيا أيها الفرنسي العزيز، شكراً على الحاجز الخشبي. لقد تحول إلى جدار من جليد لا يذوب، وإلى حاجز داخلي في عقولنا، نحمله معنا من المكتب إلى البيت، ومن البيت إلى الشارع. لقد زرعت فينا عادة التوسل لمن يفترض أنهم في خدمة الوطن. ولك أن تطمئن، فإن العداوة بين المواطن والإدارة صارت الآن طقوسًا مغربية لا تُفهم إلا عبر الانتظار، القهقهة المرّة، والقول الخالد: “خْويا، عندك شي واحد؟”
هل جربت مؤخرًا زيارة لإحدى الإدارات؟