من المتابعة القضائية إلى قبة البرلمان: مسيرة انتهازية بامتياز!

ضربة قلم
يقال إن المغرب بلد العجائب، حيث تستطيع أن تستيقظ صباحًا وأنت مبحوث عنك، وتقضي القيلولة متهمًا، ثم تنام مساءً وأنت برلماني محصن بالحصانة وبالكبرياء المصطنع. هذه ليست نكتة، بل واقع نعيشه كل يوم، حيث تتبدل الأدوار كما تتبدل الفصول، والمهم ليس أن تكون ذا كفاءة أو نزاهة، بل أن تتقن اللعبة، أن تعرف من أين تؤكل الكتف، وأن تحسن الانحناء عندما يتطلب الأمر، ثم تقفز في اللحظة المناسبة لتجلس على عرش لم تحلم به يومًا. في البدء، لم يكن صاحبنا سوى شخص متابع قضائيًا، ممنوعًا من مغادرة البلاد، يتجنب أعين الناس كما يتجنب اللص ضوء النهار، لكن الأقدار كانت كريمة معه، أو لنقل إن الحظ والدهاء والتزلف لعبوا لعبتهم كما ينبغي. فجأة، تنفرج الأوضاع، ويجد نفسه موظفًا في القطاع الخاص، ليس بفضل كفاءته ولا بفضل شهادة عليا يعلقها في مكتبه، بل لأن شخصًا ما قرر منحه الفرصة، ربما عن طيبة قلب، وربما لأسباب أخرى أكثر غموضًا، فبعض الناس لديهم قدرة عجيبة على الإقناع، على إيهام الآخرين بأنهم مظلومون وأنهم يستحقون فرصة جديدة، وحين يحصلون عليها، لا يكتفون بها، بل يطمحون إلى ما هو أكبر، وأكثر نفوذًا، وأكثر حصانةً.
لم تمر سوى أيام قليلة على استلامه عمله الجديد حتى اكتشف أن سيارات المستخدمين والتقنيين المتوقفة في مرآب الشركة أفخم بكثير من عربته المتهالكة، وهو الذي اعتاد على التباهي والتفاخر ولو على حساب الآخرين. لم يحتمل المشهد، لم يستوعب كيف أن بعض التقنيين الصغار يركبون سيارات أفضل مما يملك، فقرر أن يجد الحل بطريقته الخاصة، فطلب، وبكثير من الثقة، أن يُخصص له سائق ينقله يوميًا من محطة القطار إلى مقر عمله. كان ذلك أول اختبار لنفوذه الجديد، وقد نجح فيه بامتياز، فالرجل كان يعرف جيدًا كيف يحول كل ظرف إلى فرصة، وكيف يستغل أي هامش ممكن ليصنع لنفسه مجدًا صغيرًا ينمو ويكبر حتى يصل إلى طموحاته القصوى. لكن الرياح تأتي أحيانًا بما لا تشتهي سفن أصحاب الحيل، ففي يوم من الأيام، تصل إلى الشركة رسالة موقعة من شخصية نافذة، تطلب من المدير العام طرده على الفور، بحجة أن وجود شخص متابع قضائيًا داخل الشركة قد يضر بسمعتها. مشكلة صغيرة، لكنها كانت كفيلة بإعادته إلى المربع الأول، إلى الهامش، إلى الفراغ المخيف الذي يهرب منه، لكنه لم يكن ليقبل بذلك بسهولة. كان الحظ إلى جانبه مجددًا، فقد تولى نائب المدير العام، الرجل الذي كان سببًا في توظيفه، فتح الرسالة، وبدل أن ينفذ الأمر كما يفعل الموظفون الانضباطيون، مزقها ورماها في سلة المهملات كأنها لم تكن، وهكذا مرّت العاصفة بسلام، وكأن شيئًا لم يحدث، واستمرت اللعبة كما خُطط لها.
لم يكن الرجل من أصحاب الشهادات العليا، ولا حتى من أصحاب التجارب المهنية الحقيقية، لكنه كان يمتلك مهارة لا تُعلَّم في المدارس ولا تُدرَّس في الجامعات: التملق بذكاء، والنفاق برقي، والقدرة على التلون والتكيف مع كل ظرف وكل شخص. بدأ من أسفل السلم، متملقًا، متوددًا، يعرف كيف يضع نفسه في المكان المناسب في الوقت المناسب. لم يكن يعارض أن يقبل يد ولي نعمته الجديد، ليس مجازًا بل حقيقة، كان يطأطئ رأسه حتى يكاد يسقط كلما دخل مكتب المدير العام، وكان هذا الأخير بدوره سعيدًا بهذه الدرجة من الولاء، فاستغلها إلى أقصى حد. لم يكن المدير أقل دهاءً، بل كان أكثر خبثًا واختلاسًا، وكان بحاجة إلى أداة طيّعة لا تطرح الأسئلة، تنفذ دون تردد، تعطي الولاء مقابل الامتيازات، وهكذا أسس الرجل أكثر من أربع عشرة شركة كلها واجهات لمشاريع مشبوهة، وكان بطل قصتنا هو الذراع اليمنى التي تديرها، لا لخبرته ولا لكفاءته، بل لقدرته العجيبة على تنفيذ الأوامر بلا نقاش، وعلى اللعب في المساحات الرمادية دون أن يترك أثرًا.
لكن، وكما يحدث دائمًا في القصص التي تحمل بعض الإثارة، جاءت لحظة السقوط، وانهارت الشركة التي ظل بطلنا يشتغل فيها، وسقط المدير العام كما تسقط الأوراق اليابسة في الخريف. لكنه لم يكن وحده ممن استفاد خلال تلك السنوات، فبطلنا كان قد جمع ثروة لم يكن يحلم بها، وتحول من مجرد موظف يبحث عن قوت يومه إلى شخص قادر على تنظيم “عقيقة” بمبلغ يتجاوز ثمانين مليون سنتيم، وتوزيع الهدايا الباهظة كما لو كان قد ربح اليانصيب. لم يكن ذلك تبذيرًا اعتباطيًا، بل كان استثمارًا في المستقبل، فالطموحات لم تكن قد بلغت سقفها بعد، وكان الهدف التالي واضحًا: الحصول على مقعد برلماني..
لم تكن لديه أي خبرة سياسية، ولم يسبق له أن كتب جملة مفيدة عن الشأن العام، لكنه كان يعرف كيف تُصنع المناصب، وكيف تُدار الصفقات السياسية. كان بحاجة إلى حزب يمنحه التزكية، وقد وجد من يفتح له الأبواب كمرشح احتياطي، فدخل إلى السياسة من بابها الخلفي، لا كمناضل ولا كمدافع عن القضايا الوطنية، بل كصفقة، كرقم جديد في معادلة الانتخابات، كصوت يمكن شراؤه عند الحاجة. بدأ مؤطرًا سياسيًا، ثم صار برلمانيًا في لمح البصر، وحين جلس على مقعده المريح، حيث غير جلده في أول تجربة، بعد أن أدرك أن هذا هو المكان الذي ينتمي إليه، حيث لا أحد يسألك عن ماضيك، ولا أحد يحاسبك على أخطائك، ولا أحد يهتم بما إذا كنت فعلًا تستحق أن تكون هنا.
واليوم، بعد أن أصبح برلمانيًا، يمكنه أن ينام قرير العين، فلا شيء يهدده بعد الآن، فهو محصن، محمي بالقانون، محاط بهالة من الاحترام المزيف، وهو يدرك جيدًا أن بإمكانه أن يغير قميصه مرة أخرى متى أراد، أن ينتقل من حزب إلى آخر بلا حرج، أن يصبح “مؤطرًا” سياسيًا في أي اتجاه تختاره مصلحته، فهو لم يكن يومًا رجل مبدأ، بل رجل فرص، رجل يقتنص اللحظة المناسبة للقفز من مركب إلى آخر، رجل لا يقف عند محطة واحدة، ولا يعرف للوفاء معنى، فالحياة بالنسبة له ليست سوى سلسلة من الصفقات، والفوز فيها لا يكون للأذكى أو للأصلح، بل لمن يجيد لعبة البقاء على القمة بأي ثمن.
وهكذا، يضاف إلى سجل المغرب نائب جديد، ليس لأنه يستحق، ولا لأنه كفء، بل لأنه نجح في لعبة لم يتقنها الكثيرون، لعبة التلون والتلاعب والتزلف، لعبة التسلق على أكتاف الآخرين، لعبة فهم قواعد الميدان وتطبيقها بذكاء. وإذا كنت تعتقد أن هذه القصة استثنائية، فأنت لم تفهم بعد كيف تشتغل الأمور هنا، حيث تتغير الوجوه، لكن القصة تبقى نفسها، وحيث يبقى السؤال الأهم دائمًا بلا إجابة: كيف وصل هؤلاء إلى هنا؟ لكن لا داعي للاستغراب، فكما يقال: مادمت في المغرب، فلا تستغرب