مجتمع

من المغرب إلى أوروبا: بطاقة معطّلة وموقف خارج التوقعات

محمد صابر

في يونيو من سنة 2005، أعلنت المؤسسة البنكية التي كنت زبونًا لديها عن خدمة جديدة طال انتظارها: بطاقة بنكية مشحونة بالعملة الصعبة، ترافق المسافرين كجواز عبور مالي آمن ومريح. كنت أتهيأ لسفر، فوضعت المبلغ المسموح به في تلك البطاقة، واطمأن قلبي، لا سيما أنني كنت أعتمد كذلك على مبلغ إضافي سبق أن أقرضته لشاب مغربي مقيم في نفس المدينة التي يقطن بها أخي الأصغر، في شمال إسبانيا. هيأت نفسي للسفر، وغفلت عن شيء واحد… “الاحتياطات”.

وصلت إلى طنجة، حيث قضيت ليلتي في فندق يطل على هدوء البحر، ثم انطلقت في الصباح الباكر إلى الميناء. كنت قد اشتريت تذكرة الباخرة سلفًا من وكالة سفر بالمحمدية. عبرت أمواج البحر الأبيض المتوسط، وركبني حنين خفيف للمغامرة. وصلت “الجزيرة الخضراء” مع الزوال، أحمل حقيبتي وبطاقة بنكية ظننتها مفتاحًا لعالمٍ لا حدود له، لكن حين وضعت البطاقة في الشباك الأوتوماتيكي هناك، بدا كأنه آلة صمّاء، باردة، كتب لي رسالة جامدة: “المرجو التوجه إلى مؤسستكم البنكية”. لا سحب، لا استفسار، لا شيء سوى تلك العبارة التي خرقت صمتي كصفعة.

لم يكن بحوزتي سوى بعض الأوروات البسيطة، بالكاد تكفي لوجبة فطور متأخرة. قصدت وكالة صغيرة لخدمات الهاتف والخدمات، يديرها شاب مغربي من فاس. دخلتها بثقل، وطلبت الاتصال بمدير وكالتي البنكية بالمغرب. أجابني بصوت خافت ومعتذر، موضحًا أن أحد المستخدمين نسي تفعيل عملية تحويل المبلغ في النظام… طبع جواز سفري، دوّن بيانات البطاقة والمبلغ، ثم رحل، ووعدني بتسوية الوضع فور عودته إلى مقر العمل في بداية المساء، سيما وأن التوقيت الصيفي لم يكن قد بدأ بعد، ونحن في النصف الأول من شهر يونيو.

كنت في حالة نفسية مزرية. لم يكن غضبي موجهاً لأحد بعينه، لكنه كان يحرقني من الداخل. طلبت من صاحب الوكالة أن يحتفظ بحقيبتي لأتمشى قليلاً وألتقط أنفاسي. رفض. جلست مذهولاً… ثم أخرجت جواز سفري من الحقيبة وقلت له بلهجة لا تخلو من مرارة: “اقرأ هنا… البطاقة البنكية والمبلغ” بعد أن كان قد رفض تصديق ما جرى. حينها فقط تغيّرت نبرته. دعاني لاحتساء مشروب على الطاولة المجاورة، بعدما تحدث مع أخي الأصغر الذي أكد أنه سيرسل لي مبلغًا عند الساعة الخامسة.

من المغرب إلى أوروبا: بطاقة معطّلة وموقف خارج التوقعات

مرت الدقائق دهورًا، حيث قضيت أزيد من ثلاثة ساعات، اتصلت مجددًا بمدير الوكالة. أكد لي أن الأمر تمّ تسويته. سادني تردد، حيث تخليت عن انتظار أخي، واستخدمت بطاقتي البنكية التي أصبحت، أخيرًا، صالحة؟ قررت أن أجرّب. قلت للشاب: “جرب البطاقة”. ردّ بأن الأمر يحتاج إلى القيام بعملية تجارية حتى يتأكد من تفعيلها فعليًا.

نجحت المحاولة من خلال اقتناء تذكرة العودة عبر الباخرة الإسبانية “رابيدو”، بتذكرة صالحة لعام كامل. وفجأة، تغيّر سلوك الشاب تمامًا، أصبح أكثر لطفًا، احتفظ بحقيبتي طواعية، وخرجت لأتناول غداء تأخر كثيرًا. عدت، اقتنيت شريحة “موفيسطار” للاتصال، وتواصلت مع المؤسسة التي وجهت لي دعوة لحضور منتدى أورومتوسطي في برشلونة. أكدت حضوري في اليوم الموالي عند السادسة مساءً، وسافرت عبر حافلة مجهزة بكل وسائل الراحة، حتى المرحاض!
ربما لو لم تكن لدي رغبة عارمة في رؤية بعض الأصدقاء بطنجة، لاخترت الطائرة من البداية، وكانت لتكون أرخص وأريح. وصلت إلى محطة برشلونة، لأجد أحد موظفي المؤسسة ينتظرني بابتسامة رسمية يحمل برنامج المنتدى. وقعت عيناي على مشاركة وفد من “جبهة البوليساريو”. توقف الزمن. نظرت إليه وقلت: “لن أشارك”. تنازلت عن المبيت والطعام، وغادرت المحطة معه.
خرج معي من المحطة وتحدث إلى سائق الطاكسي بلغة إسبانية لم أفهم منها شيئًا، إذ لم تكن حصيلتي من هذه اللغة تتجاوز “بور فافور”، “غراسيس”، “أكوا”، وبعض الفتات من الكلمات التي لا تسعفني في فهم أي جملة. أخذني سائق الطاكسي في جولة عبثية عبر المدينة، ثم بدأ يساومني لقضاء ليلة واحدة في فندق: 300 أورو، 250، 200… أوقفته بشارع “براليلا”، واتجهت إلى فندق يحمل الاسم ذاته. دفعت 50 أورو فقط، وكان الفندق نظيفًا راقياً.
في الفندق، استقبلني موظف يتقن الفرنسية بطلاقة. سألته إن كان إسبانيًا، فأجاب: “أنا كاتالاني”. في اليوم التالي، ركبت القطار إلى بامبلونا، المدينة الواقعة شمال إسبانيا، حيث يسكن أخي بالقرب من ساحة “كاستيا”، مهد مهرجان “سان فيرمين” الشهير بسباق الثيران. مدينةٌ خلدتها الأفلام الأمريكية.

من المغرب إلى أوروبا: بطاقة معطّلة وموقف خارج التوقعات
قضيت أيامي هناك، ثم انطلقت نحو بوردو، المدينة الفرنسية التاريخية على نهر “غارون”، المعروفة قديماً باسم “بورديغالا” أو “مدينة المتشردين”. ثم عدت إلى بامبلونا، فمدريد، ومن هناك إلى المغرب.
ذكرياتي في تلك الرحلة لا تُنسى. ليست لأنني التقيت بأشخاص أو زرت أماكن، بل لأنها كانت المرة الأولى التي ترافقني فيها مشاعر متناقضة: الغضب، والخذلان، والانتظار، ثم القناعة بأن كل شيء يحدث لحكمة. لا زلت أحتفظ بذكرى البطاقة البنكية… وبالمنتدى الذي كدت أشارك فيه إلى جانب “اللا أحد”، وانسحبت قبل أن أساوم على مبادئي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.