مجتمع

من تراجع القيم: الجسد يعلو على الصوت والرشوة تهزم الوطن

ضربة قلم

في المغرب، حين يتعلق الأمر بمسابقات الغناء، لا تحضر الموسيقى أولاً كما يفترض بالطبيعة الفنية للأمر؛ بل تسبقها نظرات الذكور الجائعة إلى الأجساد قبل الآذان إلى الأصوات.
الصوت في ثقافتنا المعطوبة يصبح ثانوياً، مجرد مرافقة باردة لصورة مثيرة. تُقوَّم المتسابقات -قبل أن ينطقن حرفًا- بمقاييس الأنوثة والإغراء، وكأن الغناء مجرد مسرح جسدي، لا اختبارًا للأحاسيس ولا امتحانًا للفن الخالص.

وما يحدث خلال غالبية الأحيان، في مسابقات الغناء هو انعكاس لما هو أعمق في بنية المجتمع المغربي، حين تمتد “المحسوبية” و”الولاءات” و”الرشاوى” لتتسلل إلى مراكز القرار والمناصب العليا.
في كثير من الأحيان، لا يُعتد بالكفاءة أو الاستحقاق إلا على الهامش. المهم أن تكون من دائرة الموالين، أو أن تمتلك القدرة على دفع الثمن المناسب.
هكذا تصنع “النجاحات” الشكلية في مؤسساتنا، وهكذا نصنع نحن، بإرادتنا أو بصمتنا، سلسلة من المسؤولين الذين لا يعرفون عن المسؤولية إلا اسمها، ولا يحملون من الوطنية إلا قشورها المهترئة.

وفي مقابل هذه الممارسات المفضوحة، يمكن للمرء أن يتأمل كيف صممت لجان التحكيم في مسابقات الغناء بأوروبا وأمريكا الكبرى: الكراسي توضع بشكل مقلوب، والظهر إلى المتسابق، فلا يرى الحكام شكله ولا لونه ولا جنسه، بل يسمعون فقط صوته.
اختيار صارم، يعكس وعيًا مرهفًا بخطورة الانحياز والتمييز.
فهمت تلك المجتمعات أن أي لمسة من التحيز -ولو في اللاوعي-  قد تسقط القيمة الحقيقية للفن، وتدنس مفهوم العدالة.
لهذا كان الحل بسيطًا وجذريًا: احكم بالأذن، لا بالعين.
انظر إلى الموهبة لا إلى المظهر.
ميز الإنسان بما يمتلك، لا بما يظهر.

وليس الأمر متعلقاً بالغناء فقط. بل هو تجسيد حي لعقلية سياسية وثقافية شاملة تؤمن بأن الفرصة ينبغي أن تكون مكفولة للجميع، دون أن يتحول الضعف، أو اللون، أو الجنس إلى ورقة تحكم في المصير.
أما نحن، فلا تزال عيوننا تدين قبل أن تسمع، وألسنتنا تحكم قبل أن تفهم، وأيدينا تصافح الرشاوى قبل أن تكتب قرارًا واحدًا نظيفًا.

إن هذه الهوة الشاسعة بين الشكل والمضمون، بين المظهر والاستحقاق، هي التي تجعلنا ندور في حلقة مفرغة من التراجع.
فحين يسود منطق الجسد على الروح، ومنطق الولاء على الكفاءة، ومنطق المال على الشرف، فإن النتيجة الطبيعية هي أن يختل ميزان المجتمع بأكمله.

قد تبدو الأمور بسيطة في ظاهرها: غناء، مسابقة، منصب.
لكن في جوهرها، نحن أمام معركة كبرى حول معاني الاستحقاق والعدالة والكرامة الإنسانية.

كلما جلس مسؤول في منصبه دون كفاءة، نكون قد خسرنا فرصة إصلاح مؤسسة.
وكلما فازت متسابقة بجسدها لا بصوتها، نكون قد خسرنا جيلاً آخر يؤمن بأن البذل والتفاني لا جدوى منهما.
وكلما سادت المحسوبية فوق الجدارة، ماتت الأخلاق العامة، وتلاشى الأمل في الغد.

لهذا، فإن مشكلتنا ليست في حفلة غنائية عابرة ولا في مسؤول راسب في الاختبار الأخلاقي، بل في بنية فكرية ترى الإنسان لا بما يستطيع أن يقدم، بل بما تستطيع أن تأخذه منه، مباشرة أو عبر المسافة القصيرة التي تفصل بين الجيب والحكم.

وما لم نقلب نحن أيضاً كراسينا، ونسمع أولاً، ونحكم لاحقاً، فإننا سنظل رهائن لمجتمع يرى ولا يفكر، يتكلم ولا يعي، يحكم ولا يعدل.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.