مجتمع

من جماعة إلى جماعة… والفساد في عطلة مفتوحة

ضربة قلم

نقف اليوم أمام تساؤل حارق، ينبعث من عمق خيبة الأمل: هل تعب إخواننا المغاربة المراقبون بتفتيش الجماعات الترابية؟ هل أصابهم الوهن وهم يلاحقون خيوط الفساد الممتدة بين دواوين الجماعات ومكاتب الصفقات وشبكات المصالح؟ فقد لاحظنا، في الآونة الأخيرة، تراجعًا لافتًا في عدد قرارات توقيف الرؤساء والمنتخبين المحليين، الذين كثيرًا ما وُجهت إليهم اتهامات بخرق القانون وسوء التسيير. هذه التوقيفات التي كانت -ولو على استحياء- تشكل بارقة أمل في ربط المسؤولية بالمحاسبة، صارت اليوم نادرة، وكأننا أمام انسحاب صامت للمراقبة، أو ربما أمام طقس إداري فقدَ معناه في نظر القائمين عليه، بعد أن تكررت الحالات دون أن تُستكمل المساطر القضائية أو تُفضي إلى نتائج ملموسة.

التعب، إن وُجد، قد يكون تعباً مركباً. فهو من جهة تعب إداري بيروقراطي، يفرضه التعقيد الهيكلي للإجراءات والقوانين التي لا تُفعَّل كما يجب، ومن جهة ثانية هو تعب سياسي ناتج عن تواطؤ ضمني أو صريح، أو حتى عن غياب إرادة سياسية قوية تجعل من مبدأ “ربط المسؤولية بالمحاسبة” واقعاً لا شعاراً. حين تُوقف الوزارة أو العمالة رئيس جماعة أو منتخباً بسبب خروقات جسيمة، فإن هذا التوقيف في حد ذاته لا يعدو أن يكون إجراءً مؤقتاً، إداري الطابع، ينتظر المسطرة القضائية لتأخذ مجراها. لكن حين يغيب التتبع القضائي الجاد، أو يطول دون مبرر شفاف، تتحول هذه الإجراءات إلى ما يشبه التهدئة الشكلية، أو ذر الرماد في العيون.

التساؤل عن مصير هذه المتابعات القضائية لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة لتراكم حالات بدا فيها الإفلات من العقاب وكأنه القاعدة، لا الاستثناء. فكم من مسؤول جماعي أُثبت تورطه في اختلاسات، أو صفقات مشبوهة، أو تضارب مصالح، ومع ذلك لم نر له أثراً في ردهات المحاكم، ناهيك عن السجون. في المقابل، نجد بعض البرلمانيين أو رؤساء الجماعات الذين تجرأوا على التورط في قضايا فساد مالي أو إداري خلف القضبان، وغالباً ما يكون ذلك بسبب ضغوط إعلامية أو صراعات داخلية لم تترك مجالاً لطمس الملفات. ويأتي سجن عكاشة كرمز لهذه الذاكرة القريبة، حيث وُضع بعض هؤلاء، لكنهم يظلون قلة قليلة لا تعكس حجم الظاهرة ولا عمقها.

المؤسف أن هذا الإفلات من العقاب لا يمر دون ثمن. إنه يكلف الوطن الكثير من الثقة المهدورة، ويعمّق الهوة بين المواطن والدولة. فحين يرى المواطن أن الذين نهبوا أموال الجماعة، التي هي جزء من ماله العام، لا تطالهم يد العدالة، يتيقن أن الدولة إما ضعيفة أو متواطئة، وفي كلتا الحالتين فإن الرسالة التي يتلقاها المواطن قاتلة: لا عدالة في هذا البلد، أو على الأقل، العدالة ليست للجميع.

الواقع أن أخطر ما في هذا المسار هو أنه لا يفرز فقط الإحباط، بل يفرز نوعاً من التبلّد الشعبي، يجعل الناس يعزفون عن السياسة، عن الانتخابات، عن الثقة، ويخلق جيلاً جديداً يعتبر أن كل مسؤول هو لص بالقوة، وكل منتخب فاسد بالفعل أو بالإمكان. وهذا الوعي المشوّه، وإن كان مفهوماً في ظل ما يراه الناس، إلا أنه يدمر فكرة المواطنة من الجذور، ويحوّل السياسة إلى مرادف للسرقة.

حين نصل إلى لحظات حاسمة من نهاية الولاية الانتدابية، وننظر إلى الوراء، فإننا لا نجد غير حفنة من الملفات المغلقة أو المؤجلة، ومسؤولين موقوفين لكنهم طلقاء، ومجالس متعثرة، ومشاريع متأخرة، وقرى ومدن ضائعة بين الإهمال وسوء التدبير. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مرير: من يحاسب من؟ ومن يراقب المراقب؟ بل من يضمن أن ممارسات الفساد لا تعيد إنتاج نفسها في غياب محاسبة صارمة ورادعة؟

إن الفساد في الجماعات الترابية ليس مجرد خيانة أمانة، بل هو تقويض لبنية الدولة نفسها. كل درهم يُختلس من صندوق الجماعة هو درهم نُزع من مدرسة، من طريق، من مستوصف، من شجرة كان يمكن أن تغرس، من مصباح كان يمكن أن يضيء حياً مظلماً. وكل منتخب لا يُحاسب هو إعلان ضمني بأن الفساد مسموح به إذا لم تكن الظروف السياسية ضده.

إن التهاون في المتابعات، والتباطؤ في الأحكام، وغياب الشفافية في المساطر، يساهم في خلق مناخ رمادي يختلط فيه الحق بالباطل، ويتحول فيه المنتخب إلى “صاحب نفوذ”، لا خادم للشأن العام. وما دام الإفلات من العقاب ممكناً، فستظل الجماعات فريسة سهلة للطامعين في المال العام، وسيظل المواطن ضحية ومتهماً في آن واحد: ضحية فساد لم يرتكبه، ومتَّهماً بصمته أو عجزه عن تغييره.

لذلك فإن المعركة الحقيقية اليوم ليست فقط مع الفساد، بل مع ما بعد الفساد: مع التطبيع معه، مع التماهي معه، مع القبول به كواقع. المعركة هي من أجل استعادة الثقة في الدولة، وفي أجهزتها، وفي إمكانية الإصلاح. وأولى الخطوات في هذا المسار هي كسر دائرة الإفلات من العقاب، وتحويل المتابعة القضائية من خيار إلى التزام، من احتمال إلى قاعدة، حتى يعود للمسؤولية معناها الحقيقي: تكليف لا تشريف، ومحاسبة لا حصانة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.