فن وثقافة

من شغف الإذاعة إلى معاناة الرواد: ذكريات موجعة من كواليس الإعلام المغربي في السبعينات والثمانينات

ضربة قلم

حين نستحضر ذكريات أواخر السبعينات، فإن الإذاعة الوطنية، وعلى رأسها إذاعة الرباط الناطقة بالفرنسية “Chaine Inter”، كانت جزءًا لا يتجزأ من الوعي الثقافي لدى شريحة واسعة من الشباب المغربي، خاصة من عاشوا مرحلة المراهقة في تلك الفترة. كان الراديو نافذتنا على العالم، ووسيلتنا لاكتشاف الموسيقى الغربية والشرقية، والاطلاع على ألوان من الفنون لم تكن متاحة على نطاق واسع كما هو الحال اليوم مع الإنترنت ووسائط البث الرقمي.

كان الاستماع إلى برامج إذاعية بعينها بمثابة طقس يومي، وتحوّلت بعض الأسماء إلى أيقونات حقيقية في الذاكرة السمعية للجيل آنذاك. أسماء مثل أليفي حفيظ، والمكي بريطل، والمهدي غازي، رسخت مكانتها في الوجدان الجمعي للمستمع المغربي، ليس فقط بفضل أصواتها المميزة، وإنما أيضًا من خلال ما كانت تحمله من ذوق فني راقٍ، وانتقائية دقيقة فيما تبثه من موسيقى، تليق بمستمع ذي ذائقة متطلبة.

لقد كانت تلك البرامج تُقدّم باحتراف عفوي، نابع من الشغف، في زمن لم يكن فيه العاملون في الحقل الإذاعي يلهثون خلف الشهرة أو الامتيازات، بل كانوا يبذلون الجهد بدافع الحب الخالص لهذه المهنة النبيلة. وكان كثير من المستمعين، رغم بعد المسافة، يشعرون بالقرب الحميمي من هؤلاء المنشطين، وكأنهم أصدقاء يُطلّون كل مساء عبر موجات الأثير.

غير أن الواقع المهني خلف الكواليس كان شيئًا آخر تمامًا. فعندما انخرطنا لاحقًا في مهنة الصحافة خلال النصف الثاني من الثمانينات، وبدأنا نتقاطع مهنيًا مع أولئك المنشطين والصحفيين العاملين بالإذاعة والتلفزة المغربية، فوجئنا بواقع صادم لا يمت بصلة للبريق الذي كنا نتخيله. اكتشفنا أن الأجور التي كانوا يتقاضونها كانت زهيدة إلى حد مؤلم، حتى أن البعض منهم لم يكن يتقاضى أكثر من 1200 درهم شهريًا، وهو مبلغ بالكاد يكفي لتغطية مصاريف التنقل، ناهيك عن متطلبات العيش الكريم.

المنشط المهدي غازي، مثلًا، رغم تجربته الطويلة بفرنسا وحنكته الإعلامية الواضحة، لم يكن يعتمد ماديًا على أجرته الهزيلة، بل كان يقوم بعمله الإذاعي من باب الالتزام الفني والشغف الشخصي. كان يأتي من المحمدية إلى الرباط بوسائله الخاصة، دون أن يطالب بتحسين شروطه أو إثارة الانتباه إلى وضعيته. وهو أمر يبعث على الإعجاب من جهة، لكنه يكشف من جهة أخرى عن حجم الاستهانة بالطاقات الإعلامية الوطنية التي كانت تؤدي أدوارًا ثقافية وتنويرية جبارة دون أن تحظى بما يوازي ذلك من تقدير مادي أو اعتباري.

أما الوضعية العامة لباقي الزملاء من المنشطين والصحفيين، فكانت في كثير من الأحيان أكثر بؤسًا، خصوصًا أولئك الذين لم يكن لهم سند داخل المؤسسة، حيث كان بعضهم محسوبا على “باكار”، وهو الاسم الذي كان يرمز حينها إلى تيار معين داخل الإدارة. لقد كان الولاء أكثر تأثيرًا من الكفاءة، والمحسوبية تتفوق على المهنية، مما خلق مناخًا ملوثًا أضر بالمردودية وبالمعنى الأصيل للعمل الإعلامي.

وتتضاعف الحيرة حين نعلم أن وجوهًا معروفة اليوم، مثل سميرة سطايل، قد بدأت مشوارها في المؤسسة ذاتها بأجر لا يتجاوز هو الآخر 1200 درهم، قبل أن تنتقل لاحقًا إلى القناة الثانية التي منحتها مساحة أكبر للتحرك والتطور المهني، لتتدرج في المناصب إلى أن وصلت إلى إدارة قسم الأخبار، ومنها إلى العمل الدبلوماسي، وهو ما يعكس من جانب آخر كيف أن بعض الأطر استطاعت أن تتجاوز عتبة التهميش الأولي بفضل الطموح الشخصي والمثابرة، وليس نتيجة لمنظومة عادلة تدعم التميز.

إن ما يؤلم في هذه القصة ليس فقط ضآلة الأجور، وإنما استمرار هذه الثقافة الإدارية لعقود، حيث ظلت الأجور الزهيدة وضعف التحفيز وغياب العدالة المهنية واقعًا معاشًا لدى فئات واسعة من الإعلاميين، رغم أنهم في الخطوط الأمامية لصناعة الرأي العام وبناء الوعي الجمعي. لقد كانت المؤسسات الرسمية في كثير من الأحيان تتعامل مع الإعلاميين ككائنات وظيفية لا كفاعلين ثقافيين، وتمنحهم أقل مما يستحقونه، سواء من حيث الكرامة المهنية أو الإمكانات اللوجستية أو حتى التشجيع المعنوي.

اليوم، حين نعود بذاكرتنا إلى تلك الأيام، نغمرها بقدر من الحنين والامتنان، لكن لا نستطيع إنكار الشعور بالغصة. فقد كانت سنوات البدايات بالنسبة للكثير من الإعلاميين المغاربة، رغم قيمتها الرمزية العالية، مليئة بالحرمان والتهميش وسوء التقدير. ومع أن المغرب عرف بعد ذلك تحولات كبيرة على مستوى الإعلام، سواء مع ظهور القنوات الخاصة أو انفجار وسائط التواصل، فإن الإرث الثقيل لتلك المرحلة لا يزال يلقي بظلاله، لا سيما حين نرى أن كثيرًا من الكفاءات غادرت الميدان مبكرًا، أو لم تجد الاعتراف الذي تستحقه بعد عقود من العطاء.

إن استذكار تلك المرحلة هو في الآن ذاته استحضار لتاريخ غير مكتوب لمهنة الإعلام في المغرب، حيث التضحيات كانت أكبر من المكاسب، وحيث الأصوات التي رافقتنا في عزلة الليل كانت تخفي وراءها قصصًا من المعاناة الصامتة. وربما كان لزامًا علينا اليوم أن نفتح هذا الملف، لا بغرض البكاء على الماضي، بل لطرح سؤال العدالة المهنية في الحاضر، وتحقيق شرط الإنصاف لأولئك الذين شيدوا أركان الإعلام المغربي بجهودهم الفردية، وهمشهم التاريخ الرسمي والمؤسساتي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.