مجتمع

من صميم الواقع المر: من رياض الأحلام إلى شقة الوحدة… حليمة بين ظلم الأصهار وحنان “الكافرة”

ضربة قلم

في زمنٍ كان فيه للمودة صدى، وللروابط الأسرية جذور تضرب عميقًا في الأرض، بدأت حكاية “حليمة” — وهو اسمها المستعار — التي نسجت سنوات عمرها الأولى بين الحياء والوفاء، في مغرب السبعينيات، حيث كانت البساطة عنوان الحياة، وكان الزواج رباطًا مقدّسًا لا يُقاس بذهب أو عقار، بل بالمحبة والمشاركة.

تزوجت حليمة من رجلٍ دخل عالم الفندقة بتواضع لكنه خرج منه بكرامة. صعد سلّم المهنة درجةً درجة، حتى أصبح من وجوه القطاع المحترمين، صاحب كلمة ومقام، وإن ظلّ مكتريًا لشقة صغيرة في أحد أحياء الدار البيضاء، لا يتجاوز كراءها الشهري 500 درهم، وهو مبلغ، وإن بدا زهيدًا اليوم، كان يومها أشبه بأجر شهري للعديد من الموظفين الكادحين. لم يكن في الشقة ما يُبهر، لكن كانت فيها روح العائلة، دفء الأمومة، وحُلمٌ مشترك بغدٍ أفضل.

أثمر زواجها بابنٍ وبنت، وكان لهما نصيب من الجدّ والطموح، فطار الابن إلى فرنسا، وهناك، بين ردهات الجامعات العريقة، نحت مستقبله بأظافر الإصرار. حصل على دكتوراه الدولة، وارتقى إلى مصاف الأساتذة الجامعيين، وتزوج من صديقة فرنسية أنجبت له طفلين. أما البنت، فقد بقيت أقرب إلى الوطن، واشتغلت إطارًا تجاريًا في شركة كبرى بالدار البيضاء، تزوجت هي الأخرى، وأصبحت أمًا لثلاثة أطفال، تزاوج في حياتها النجاح المهني والاستقرار الأسري.

لكن في عمق القصة، خلف هذه النجاحات، كانت حليمة وزوجها يعيشان صراعًا آخر، صامتًا، لا يعكسه الراتب ولا المنصب. كان الحنين إلى الأصل، إلى سوس، إلى تراب الجدود، يشتعل في قلب الرجل كجمرة لا تنطفئ. لذلك، مع أخيه، قرر أن يُرمّم إرثًا قديما تركه والدهما، بيتًا عتيقًا حوله إلى رياض جميل، بثمن باهظ وعرق سنين طويلة. أراد أن يختم حياته حيث ابتدأت، وسط عبق التراب السوسي، وأن يُمضي شيخوخته في حضن الأصالة، هناك حيث لا ضجيج ولا زيف.

استقرّ هناك مع حليمة، بينما ظلّ الأبناء يتابعون مسارهم بعيدًا، كلٌّ في طريقه، وكلٌّ في عالمٍ بدا وكأنه يبتعد أكثر فأكثر عن جذور الحكاية.

لكن الحياة، كما عوّدتنا، لا تمضي وفق ما نخطّط، بل غالبًا ما تحمل في جعبتها مفاجآت مُرة. خانت الصحة ذلك الرجل الطيب، وأثقل المرض جسده حتى صار ظلًا لما كان، ثم انطفأ فجأة، تاركًا وراءه رياضًا أنيقًا، وأم ابنيه، لم يكن في حوزتها سندٌ قانوني ولا إرثٌ مادي، سوى الذكريات.

وهنا، بدأت المأساة.

في لحظةٍ، انقلبت الموازين. فإذا بشقيق الزوج، الذي شاركه حلم الرياض، ومعه إخوان آخرون، يُطردون حليمة من البيت، لا رحمة ولا تقدير، لا عزاء في حزنها، ولا حياء في سلوكهم. حتى الأثاث، حتى الفُرش، لم يُسمح لها بأخذه. تركوها تُواجه الدنيا بظهرٍ مكشوف، بلا زوج، بلا بيت، وبقلب منكسر.

كانت الصدمة أكبر من أن تُروى. كيف يُمكن لأناسٍ من لحم زوجها ودمه أن يطردوها كالغريبة؟ أين العِشرة؟ أين المعروف؟ أين تلك الطيبة التي جمعتهم يومًا تحت سقف واحد؟ الأسئلة ظلت تتردد في عقلها، لكن لا أحد كان يملك جوابًا، إلا أنّ الزمن قد تغيّر، والقلوب قست.

وجدت ملاذًا في شقة تعود لابنها الأستاذ الجامعي، الذي لم ينسها، بل عرض أن يُسجل الشقة باسمها، عربون وفاء وامتنان. لكنها رفضت. كان بداخلها خوف عميق، غريزي، أن تُصبح يومًا سببًا في خلاف بين ابنيها، أو أن ترث ابنتها الشقة، مما يُثير الحرج أو الطمع. هي لا تريد شيئًا. فقط أرادت زاوية هادئة تُكمل فيها ما تبقى من العمر، بعيدًا عن المنازعات، بعيدًا عن الظلم.

والمفارقة العجيبة أن أكثر ما آلمها، لم يكن فقط الطرد، بل أنّ من خفّف عنها حزنها، من واساها بصدق، لم تكن سوى “الفرنسية”، زوجة ابنها، تلك التي ربما كانت تُنعت يومًا بـ”الكافرة”، “الغريبة”. حين بكت حليمة ذات يوم وقالت لها بنبرة قلق:

“إياكِ، لا قدر الله، وتوفي ابني، أن تطرديني من البيت”،

ما كان من تلك الشابة إلا أن احتضنتها بحرارة، والدموع تغمر خديها، لترد:

“من المستحيل، مستحيل، أن أفكر في ذلك. أنتِ أمّي.”

في تلك اللحظة، ربما للمرة الأولى، شعرت حليمة أن الإنسانية لا دين لها، وأن الرحمة ليست حكرًا على القربى، وأن الغربة قد تُنجب حبًا صادقًا، أكثر من صلة دم خالية من الرحمة.

ختامًا

قصة حليمة، وإن بدت مأساوية، ليست حالة شاذة. بل هي مرآة لواقع مُرّ تعيشه كثير من الأرامل في مجتمعاتنا، حيث يُنتزع منهن الأمن بعد موت الأزواج، وتُقابل العِشرة بالنكران، والوفاء بالجحود. وفي المقابل، تظهر بعض المواقف الإنسانية النبيلة في أماكن لم نكن نتوقعها.

هي قصة عن خذلان الأهل، ولكنها أيضًا قصة عن وفاءٍ جاء من “الغير”. درس في أن الحق لا يُقاس بالدم فقط، بل بالمروءة والرحمة والضمير. وأن الإنسان قد يُولد في وطن، لكن وطنه الحقيقي هو من يمنحه الأمان والاحترام حين يحتاج إليهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.