مجتمع

من ضربة قدم إلى ضربة قلم: الفقر واحد

ضربة قلم

في سنوات مضت، حين كانت كرة القدم مجرد لعبة نبيلة، لا ملحقًا للبنوك وشركات الإعلانات، كان اللاعب يركض من أجل القميص، لا من أجل صفقة الانتقال أو عدد المتابعين على “الإنستغرام”. كان الحلم أن يُذكر اسمه في مدرجات الملعب، لا على قوائم المجوهرات الفاخرة أو عقود الإشهار. مات كثير من أولئك اللاعبين البسطاء وهم لا يملكون حتى ثمن الدواء، وبعضهم دفن في صمت تام، دون تأبين ولا تكريم ولا حتى نظرة امتنان. وحتى أولئك الذين قُدّر لهم أن يحظوا ببعض الامتيازات، ظلوا بعيدين عن عالم الثراء. وحدها فئة صغيرة، تعرفها الجماهير جيدًا، عرفت كيف تحترف “اللعب خارج الملعب”، وكيف تقتات من وهج الأضواء، لا من عرق الجبين.

المفارقة أن نفس القصة تتكرر، بوجوه مختلفة، في مهنة الصحافة. مهنة كانت يومًا ما تُمارس بشغف نادر، وقلمٍ لا يُشترى، وصوتٍ لا يُكسر. قيدومو الصحفيين كتبوا في ظروف قاسية، عاشوا على الحد الأدنى، وماتوا في الهامش. لا معاش يليق، ولا ذكرى تحفظ، ولا جملة واحدة تعيد لهم الاعتبار. أما اليوم، فقد دخلت الصحافة إلى مرحلة جديدة، مرحلة لا تعميم فيها، لكنها محفوفة بأقلام تزن كلماتها بميزان السوق لا ميزان الضمير. جزء منها امتهن التطبيل، وجزء آخر عرف كيف “ينخرط” في الأندية التي لا تُذكر أسماؤها إلا همسًا، أندية النفوذ والمصالح والمجاملات المعلّبة.

وبين هذا وذاك، صار الكذب حرفة، والتحقيق الصحفي شبهة، والحياد مجرد شعار يُرفع في المؤتمرات. كثيرون اليوم لا يكتبون الحقيقة، بل ما يُطلب منهم كتابته. بعضهم لا يخجل أن يُحرّف الوقائع مقابل راتب مضاعف أو امتياز إداري، مثل القاضي الذي يعرف مسبقًا من الظالم ومن المظلوم، ثم يُصدر الحكم حسب الجهة التي تدفع أكثر، أو التي تملك حصانة لا تُخترق.

وهكذا، كما مات اللاعب الفقير في العتمة، يُمحى الصحفي الشريف من الذاكرة. يُستبدَل بمن يتقن توزيع الابتسامات في حفلات العلاقات العامة، ومن يعرف متى يسكت، ومتى يكتب، ولمن يكتب. لأن في هذا الزمن، لا أحد يُحاسب من يبيع الحقيقة… بل يُكافأ.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.