من عظماء المحمدية إلى تغيير الأفق: رحلة رئيس الجماعة من خدمة المدينة إلى قيادة الوداد

ضربة قلم
إذا كان هناك أمرٌ يمكن أن يثير الدهشة أكثر من غيره في مدينة المحمدية العتيقة، التي ما زالت تحتفظ بذكريات الأمل والهزائم على حد سواء، فهو تاريخها السياسي المليء بالتحولات والتقلبات. المحمدية، تلك المدينة التي تطل على البحر، والتي لطالما كانت موطنًا لأولئك الذين عاشوا بين ثناياها وتغلبوا على تحدياتها، لم تخلُ من قصص تجسد التوترات السياسية والاجتماعية التي أفرزت تاريخًا عميقًا. منذ العهد الاستعماري، كانت المحمدية مركزًا سياسيًا ذا أهمية متزايدة، حيث تأثر العديد من أبناء المدينة بالأجواء السياسية التي سادت خلال مرحلة الاستقلال، وخاصة في الأحياء ذات النزعة الثورية مثل البرادعة، حيث كان حزب الشورى والاستقلال يحظى بشعبية واسعة.
ومن الشخصيات التي تركت بصمتها في الحياة السياسية للمدينة، يأتي الراحل التهامي كنون، الذي كان أول رئيس مجلس بلدي للمحمدية. كان كنون يمثل الشوريين الذين ظلوا يهيمنون على مجريات الأمور في المدينة، بل أصبح فيما بعد باشا المدينة. في تلك الفترة، كان الحضور الحزبي قويًا لدرجة أن كل مرشح كان يُقاس بحجم تاريخ حزبه السياسي، مما جعل الانتخابات في المحمدية ميدانًا لمعركة فريدة من نوعها. كانت المنافسة بين الأحزاب شبه ترفيهية في شكلها، ولكنها قاتلة في جوهرها. وبينما كان الشوريون والاستقلاليون يتنفسون السياسة من خلال تاريخهم النضالي، جاء دور الاستقلاليين الذين هيمنوا لاحقًا على تسيير جماعة المدينة، برئاسة الراحل مولاي العربي الزروالي.
بعد تجربة الاستقلاليين، ظهر الاتحاديون ليمنحوا المدينة نكهة أخرى من التصعيد السياسي. تمكنوا، تحت أسماء لم تعد تُذكر، من فرض سيطرتهم في بداية الثمانينات عبر رجل السياسة الراحل محمد أشركي. لا يمكن أن يغيب اسم أشركي عن الذاكرة، خاصة عندما نتحدث عن الفترة التي شهدت تغييرات جذرية على الصعيد الوطني. بل، لم يكن أمام المغرب من خيار سوى تمديد ولاية 1983 إلى غاية 1994، لأسباب تقشفية أكثر منها تبريراً سياسياً، ليصبح أشركي أحد أبرز الوجوه السياسية التي امتدت ظاهرة وجودها لأكثر من عقد من الزمن.
لكن إذا كانت هذه التحولات قد أثرت على الوضع السياسي، فإن الوضع الرياضي في المدينة لم يكن أقل تعقيدًا. فبمجرد أن تأخذ خطوة إلى الوراء وتنظر في سيرورة الأحداث الرياضية في المحمدية، تجد نفسك في دوامة من الأسئلة. ففي تلك الحقبة، ظلت كرة القدم بصفة خاصة تعيش أجمل تاريخ لها، حيث كان فريق شباب المحمدية يطعم المنتخب الوطني المغربي بنحو خمسة لاعبين، وكان له حضور قوي في البطولة المغربية. هذا النجاح الرياضي كان من المفترض أن يُترجم إلى مزيد من الاستثمار في المدينة وأبنائها وسكانها، لكن الأمور كانت تسير في اتجاهات أخرى.
تأملوا الأسماء التي كانت تسير جماعة المحمدية في ذلك الوقت. هل يمكن أن تتصوروا أن أحد هؤلاء الذين ترأسوا المدينة كان ليقبل برئاسة فريق من خارج المحمدية؟ بالطبع لا، لأن الأمر كان يُعتبر خيانة للمدينة وللمسؤولية المبدئية التي تقتضي البقاء في خدمة المدينة وسكانها. كانت السياسة في المحمدية تمثل حياة وحلمًا مشتركًا لأبنائها وسكانها، وكانوا يعتبرون أن من يقود المدينة يجب أن يكون أدرى بشؤونها أولاً وقبل كل شيء.
لكن في تطور غريب وملفت للأنظار، يظهر اليوم رئيس جماعة المحمدية الذي قرر أن يخوض مغامرة كروية لم يكن أحد يتوقعها، عبر ترؤسه لفريق الوداد البيضاوي. فكيف يمكن لرئيس جماعة مدينة كالمحمدية، التي لم تُتَح لها الفرصة بعد للارتقاء في العديد من الجوانب الحياتية والاجتماعية، أن يذهب ليترأس فريقًا بعيدًا كل البعد عن مدينته؟ كيف يمكن لرجل كان يفترض أن يكرس وقته وطاقته في تحسين وضع المحمدية، أن يرفع الراية البيضاء في مجال آخر بعيد عن هموم سكان مدينته؟ يبدو أن الطموح السياسي له لم يُشبع، فقرر أن يتنقل إلى ميدان آخر. قد يتساءل البعض: هل هو بحث عن شهرة أوسع أو مصلحة أكبر؟ أم هو هروب من مواجهة المشاكل الحقيقية التي لا تزال تعاني منها المحمدية؟ قد تكون الإجابة خليطًا من كل هذا.
الحقيقة الثابتة التي لا يمكن تجاهلها هي أن المحمدية في حاجة ماسة إلى من يضخ فيها الحياة من خلال القضايا اليومية التي تهم المواطنين بشكل فعلي، وليس عبر مغامرات رياضية قد تنتهي بشكل غير متوقع. المحمدية بحاجة إلى من يواجه مشاكلها الداخلية قبل أن يذهب للبحث عن النجاح في مجالات أخرى. وكما تشبه كرة القدم في هذه المدينة السياسة، حيث تضيع الخطوط بين الانتصار والهزيمة، يبدو أن كل شيء في المحمدية يبقى في دائرة المجهول. فهل سيكتب التاريخ لهذه المدينة قصة أخرى تختلف عن تلك التي خاضها رجال السياسة في الماضي؟ أم ستظل المحمدية تكتفي بالذكريات، دون أن تنجح في تجاوز حدود الماضي؟
نقول هذا، ونؤكد أن فريق شباب المحمدية، الذي طالما كان رمزًا لكرة القدم في المدينة، قد “فوض” نيته في العودة إلى الأقسام السفلى، ليحقق بذلك أحد أغرب التحولات الرياضية في تاريخ المدينة. كيف لا؟ وفجأة، أصبح الفريق الذي كان يُعتبر أحد أبطال الدوري في فترة من الفترات، يتجه بخطى ثابتة نحو العودة إلى حيث لا يُنتظر منه شيء. سبحان مبدل الأحوال، ففي لحظة، أصبح شباب المحمدية الذي كان يُشهر اسمه على المستوى الوطني والدولي، وكأنه يطوي صفحة الماضي ويغادرها إلى المجهول.
لقد كان فريق شباب المحمدية، في أيامه الذهبية، مصدر فخر ليس فقط لأبناء وسكان المدينة، بل للمغرب بأسره، حيث قدم لاعبين بارعين وأسهم في تألق المنتخب الوطني. لكن الأمور تغيرت بشكل مفاجئ، ليجد الفريق نفسه في دوامة من الهبوط والتدهور، وسط غياب الدعم والتخطيط الاستراتيجي الذي كان في حاجة إليه. مع الأسف، لم يتمكن الفريق من الحفاظ على مستواه، وبات اليوم وبقدرة “قادر” يشق طريقه عبر أصعب المراحل التي مرت بها الرياضة في المدينة.
ومن هنا، يتضح لنا أن الفوضى التي تشهدها السياسة أحيانًا قد تجد مثيلًا لها في الرياضة. ففي الوقت الذي كان يُفترض أن يظل فريق شباب المحمدية في الصفوف العليا، تتلاشى آمال البقاء، ولا يبدو أن هناك من يملك الحل السحري لإعادة الروح للمدينة وفريقها الذي لطالما كان أحد أركانها المهمة. ربما كان هذا بمثابة تحذير يوجه للمدينة بشكل عام، حيث تكشف الأوضاع الرياضية والسياسية عن حالة من عدم الاستقرار والضياع، والتي لم تُدَار بحكمة.
تظل المحمدية تُواجه تحديات كبيرة على كافة الأصعدة، سواء على مستوى السياسة أو الرياضة، حيث تصبح كل محاولة للعودة إلى الواجهة بمثابة حلم بعيد المنال. فكل شيء في هذه المدينة يبدو أنه مرتبط بما هو أكبر من مجرد التحولات المحلية؛ فالمحمدية بحاجة ماسة إلى نهضة شاملة، تبدأ من إعادة بناء مؤسساتها الرياضية والسياسية، حتى تتمكن من استعادة بريقها الذي كان يُضيء سماء المغرب.