من لا ينافق لا يرتقي: سيرة ذاتية لمجتمع بكامل أطيافه

ضربة قلم
في بلاد العجائب الواقعية، حيث يُنصّب البؤس وزيراً للصحة العقلية، ويُمنح الفساد وسام الاستحقاق الوطني، لا غرابة أن تُصبح الانتهازية عمودًا فقريًا لبنية المجتمع. لا نتحدث عن فئة بعينها، بل عن وباء اجتماعي شامل، لا يفرّق بين موظف ومثقف، ولا بين طبيب وجزار، ولا بين بائع متجول ومدير مؤسسة. الكل مرشح ليصبح انتهازيًا، بدرجة أو بأخرى، في هذا الوطن الذي يُكافئ الحيلة ويُعاقب النية الطيبة كما لو كانت جريمة أخلاقية.
انتهى زمن النضال والضمير المهني وحبّ الوطن “بلا مقابل”، وبدأ عصر الانتهازي الباسم دائمًا، المتحول مثل الحرباء، الذي يجلس مع الجميع، ويشرب الشاي مع الجميع، ويقول للجميع: “معكم حتى الموت”… ثم يبيعهم في أول مفترق طرق مقابل بطاقة دعوة لحفل عشاء فاخر.
في هذا الزمن، لم تعد الانتهازية سلوكًا معيبًا، بل أصبحت مهارة حياتية، مثل تعلم القيادة أو إعداد الكسكس. هناك من يدرّسها في الدوائر الداخلية للبيروقراطية، وهناك من يمارسها ببراعة ساحرة على موائد الاجتماعات، وهناك من يتقن أداءها لدرجة أنه قد يُنصَّب مرشدًا أخلاقيًا لغيره!
ولدينا تصنيفات كثيرة للانتهازيين، من قبيل الفنادق. هناك الانتهازي من فئة خمس نجوم، يتقن فن التلون السياسي والنقابي والمهني، ويمتلك قدرة مذهلة على الظهور دائمًا في الصف الأول في الصور الرسمية. وهناك الانتهازي من فئة ثلاث نجوم، الذي لا يهمه إلا الترقية أو الانتقال، وقد لا يتورع عن تزييف وثيقة أو ربط علاقة “وظيفية” مع مسؤول متردد المزاج. ثم هناك الانتهازي من فئة نجمة واحدة، الذي يقضي أيامه يتجسس على زملائه، وأمسياته في نسخ بلاغات المسؤولين، ومراسلة المفتشين السريين بأسلوب عبقري: “بلغني أن فلاناً…”!
في الإعلام، يبدو أن الانتهازية لم تعد مجرد سلوك عارض، بل تحوّلت إلى شرط من شروط الولوج إلى المهنة، ومفتاحًا للترقي في مدارج “النجاح” المزعوم. الصحافي الانتهازي لا ينتظر فقط أن يرى في أي اتجاه تهب الريح، بل يتفنن في نصب أشرعته حيث الغلبة، ويغير قناعاته بسرعة البرق. لا يكتب بناءً على المعلومة أو المبدأ، بل حسب درجة القرب من مركز النفوذ، وتبعًا لحجم الفائدة المرجوة من الجهة “المُؤطرة”. وقد لا يتردد في افتراس زملائه حرفيًا إن لزم الأمر، يأكل لحومهم بلا ملح ولا خجل على مائدة التملق، ينهش سمعتهم في الكواليس، ويصوغ مقالاته كما يصوغ المتسلق حبل نجاته: عقدة فوق عقدة، فوق عقدة.
الغريب أن الانتهازي الإعلامي لا يتقاعد عن انتهازيته، بل يحملها معه إلى قبره، وربما يُدفن وهو يحاول إقناع ملك الموت بصفقة إعلامية لصالح “الجهة الأخرى”. لا يشيخ في مهنته، بل يتحول إلى “نقيب شرفي للوقاحة”، وموجه للصحافيين الشباب في دروس عملية حول كيف تكون ذكيًا لا نزيهًا، ومكيفًا لا صادقًا، ومتحدثا جيدًا باسم السلطة” لا باسم الحقيقة.
في حضرته، تموت الكلمة الحرة، ويُستبدل الخط التحريري بخط التملق، وتُحذف الفواصل لتحل محلها علامات التعجب المصطنع، ويصبح الخبر الصحفي مجرد مناسبة للنفاق العمومي المغلف بلغة مهنية مزيفة. وهو في كل ذلك يتصرف لا كمهنة، بل كمشروع شخصي للبقاء بأي ثمن، حتى لو احترق كل شيء من حوله… المهم أن يظل هو في الصورة، وعلى الأقل، في الصف الأمامي لالتقاط الصور.
وفي التعليم، بات بعض من يفترض أنهم مشاعل المعرفة لا يضيئون إلا عند اقتراب عدسة الكاميرا. يُدرّس بعناية مصطنعة أمام الجمهور، ويختفي خلف ستار الإهمال ما إن تُطوى أوراق التصوير. يوزّع النقاط كما توزّع علب الحلوى في حفلات المجاملة، يرضي هذا الطالب لأنه “ولد فلان”، ويُنجح تلك الطالبة لأنها “رفيقة فلانة”، وينسى تمامًا أن التربية والتعليم هما آخر الخطوط الدفاعية أمام خراب المجتمع… لكن من يهتم؟ ما دامت الأضواء ساطعة والصورة محسّنة بالفلاتر التربوية.
أما السياسة، فدعك من التساؤل… في هذا القطاع، الانتهازي ليس استثناءً، بل القاعدة. السياسي الانتهازي يبدّل خطابه كما يبدّل ربطة عنقه: صباحًا مع الحقوق، مساءً مع القمع، وفي منتصف النهار حيادي حتى إشعار آخر. يعيش على وعود لا ينوي الوفاء بها، ويتنقل بين الأحزاب كما يتنقل الطفيلي بين العوائل. هو معك ومع خصمك، وفي بعض الأحيان ضدكما معًا، فقط ليحجز مكانه على الطاولة حيث تُقسم الكعكة.
حتى الحب، هذا الملاذ الوحيد الذي كان يُفترض أن ينجو من لعنة الحسابات… لم يسلم. فقد صار هو الآخر سوقًا يخضع لقانون العرض والطلب. هناك من يختار شريك حياته كما يختار سيارة: حسب الماركة وعدد الكيلومترات والمزايا التكميلية. الحب عند بعضهم هو مشروع تمويل صغير، عقد شراكة مشروط، بطاقة ولوج إلى طبقة اجتماعية أعلى أو إلى وظيفة لا تُطلب بملف الترشيح بل بمكالمة هاتفية. يُقسم أنه يحبك حتى النخاع، لكن بمجرد ما يُنهي تمرير طلبه أو يوثق عقد الشقة… يكتشف أن حبه كان من نوع الحب القابل للاسترجاع.
نحن لا نعيش فقط في زمن الانتهازيين، بل أصبحنا نتنفس انتهازية، نتعلمها، نمارسها، ونتصالح معها على موائد اليومي الموبوء… فقط كي ننجو، أو هكذا نظن.
ولنكن منصفين، الانتهازية لا تميز. فهي ديمقراطية بامتياز. تضرب الموظف الصغير في الملحقة الإدارية، كما تضرب البرلماني الذي يصوّت بلا أن يقرأ المشروع، وتضرب الإمام الذي يحوّل المنبر إلى وكالة تأمين، كما تضرب الفنان الذي يمدح الوطن إذا كان السعر جيدًا.
نعيش في زمن من يركب على الجراح ليبني مجده، ومن ينظّر للعدالة وهو يسكن في فيلا لم تُسجل باسمه، ومن يحاضر في النزاهة وهو لا يوقّع وثيقة إلا مقابل “هدية رمزية”. ومن يصرخ دفاعًا عن الكرامة في النهار، ثم يمد يده في المساء لقبول حقيبة بلا أسئلة.
بلادنا تحوّلت إلى مسرح كبير للانتهازيين، يتبادلون الأدوار مثل ممثلين فاشلين في مسرحية مملة، والجمهور إما أنه نائم، أو أنه تعلم بدوره التمثيل. وفي النهاية، من يرفض أن يكون انتهازيًا، يُوصف بالـ”غبي”، أو “ما فاهمش اللعبة”، أو “مزروب يطيح في الحفرة”.
هكذا أصبحنا جميعًا متورطين، بدرجات متفاوتة، في إنتاج وصناعة وترويج الانتهازي المغربي: ذاك الذي يُغلق عيادته ليركض وراء مقعد جماعي، أو ذاك الذي لا يعرف شيئًا عن النقل الحضري، لكنه يدير عشر مأذونيات، أو ذاك الذي يقنعك بأنه لا يحب المال، لكنه لا يتحرك دون ظرف أصفر.
في زمن الانتهازيين، لا تُفاجَأ إن رأيت رئيس جمعية لمحاربة الرشوة يخرج من عند مسؤول عمومي مبتسمًا بعد “جلسة تفاهم”، ولا تستغرب إذا اكتشفت أن رئيس لجنة النزاهة في حزب سياسي هو نفسه الذي يفاوض تحت الطاولة على حصته في لائحة الانتخابات. لا تندهش، لأن المفاجأة ماتت، والاندهاش انتحر، والواقعية الساخرة صارت الملاذ الأخير للعقلاء.
ببساطة، لم تعد الانتهازية انحرافًا. أصبحت من مقومات النجاح. صارت مؤهلاً إدارياً، بل ربما بندًا في بعض مباريات التوظيف: “هل أنت مرن في المبادئ؟ هل تتقن الانحناء عند اللزوم؟ هل تستطيع أن تصفّق بحرارة لشيء لا تؤمن به؟ ممتاز! مرحبًا بك في نادي الناجحين.”
في زمن الانتهازيين، لا مكان للمستقيمين إلا في كتب التاريخ. أما في الواقع، فـ”الناجح” هو من يعرف كيف يصمت عند اللزوم، ويصرخ عندما يكون الميكروفون مفتوحًا، ويبتسم حتى وهو يطعن أقرب الناس إليه، ثم يبرر فعلته بعبارة: “ماشي أنا، هادي السياسة”.
فهل نحتاج لمعجزة؟ ربما لا. نحتاج فقط أن نتوقف عن التطبيع مع الانتهازية، عن تبريرها، عن الإعجاب بها، عن تبريرها بكلمات مثل “قافز”، أو “عايق”، أو “عارف كيفاش يدوز راسو”.
لأنه ما دام الانتهازي هو من يعيش أفضل، ومن يُصفّق له أكثر، ومن يُبرمج في نشرة الأخبار على أنه “قدوة”، فسيبقى الوطن يُدار على طريقة النفاق الجماعي، حيث الكل يعلم، والكل يتواطأ، والكل يبتسم في وجه الكارثة كأنها مناسبة للفرح.
في زمن الانتهازيين… حتى الحقيقة تحتاج إلى رخصة للمرور.
Awesome https://is.gd/N1ikS2
Good https://is.gd/N1ikS2
Good https://is.gd/N1ikS2
Good https://is.gd/N1ikS2