مجتمعسياسة

من مكتب إدريس البصري إلى باشوية الهرهورة: رحلة ابن الكاتبة الخاصة

م-ص

يا سلام على هذا البلد الذي لا تنقضي عجائبه، بلدٌ يعرف كيف يجمّل الفساد في لباس الوجاهة، ويمنح أبناء “الصالونات المخملية” مفاتيح الإدارات، ثم يقول لك ببرود: “كل شيء بالاستحقاق”. وكأننا نحن من لا نحسن القراءة، أو كأن الذاكرة المغربية لا تحتفظ بصور أولئك الذين قفزوا فوق الصفوف بفضل “المعارف” و”تليفون الوالدة”.

المحسوبية والزبونية في المغرب ليستا مجرد عادتين اجتماعيّتين، بل ثقافة عريقة تضرب جذورها في عمق مؤسسات الدولة. والناس، كل الناس، يعرفون أن هناك طريقين للوصول: طريق التعب والسهر، وطريق الهواتف الدافئة والأنساب اللامعة. ومن سلك الطريق الثاني، لا يحتاج إلى كفاءة ولا إلى شهادة عليا؛ فالأسماء اللامعة تفتح الأبواب الموصدة، واللقب العائلي في بعض الأحيان أهم من أي دبلوم.

تخيلوا معنا ذلك الشاب الذي تخرج من المعهد الملكي للإدارة الترابية سنة 1993. شاب لم يكن يحمل من الهمّ الإداري سوى همّ الإقامة في مكان مريح، قريب من العاصمة، حيث المقاهي المضيئة والسيارات الفاخرة ورائحة البحر الممتدة من سيدي العابد إلى تمارة. أمّه كانت الكاتبة الخاصة لوزير الداخلية إدريس البصري، وأبوه من رجالات “الأجهزة”، فكيف لا تُفرش له الورود في طريقه المهني؟
تحركت الهواتف، وتبادل المسؤولون الابتسامات المليئة بالإيحاءات. لم يكن الشاب بحاجة إلى امتحان شفوي أو اختبار ميداني؛ فالهاتف كفيل بكل شيء. وما أدراك ما الهاتف في تلك الحقبة، حين كان الاتصال من مكتب الوزير يعني أن الأوامر نازلة من “الفوق”، ولا مجال للمناقشة أو التمنّع.

حطّ رحاله أولًا في قيادة بني يخلف، التي كانت آنذاك جزءًا من عمالة بنسليمان. هناك، استقبله القائد القديم بابتسامة من يعرف اللعبة جيدًا: “خليه يشوف بعينيه”. أخذه في جولة “استكشافية” إلى الأحياء الصفيحية، حيث الأوحال والماء العكر والبيوت التي تخجل من نفسها. كان القائد يدرك أن تلك المشاهد ستكفي لردع رغبة الشاب في الإقامة بين “البؤساء”.
وبالفعل، ما إن انتهت الجولة حتى كان قرار الولد جاهزًا: “الهرهورة أفضل”. هناك، حيث البحر يهمس في آذان الأثرياء، وحيث الليل يبتسم على وقع الموسيقى الخليجية، وحيث تتدفق الرائحة الفاخرة للأموال الساخنة. وهكذا، بقدرة هاتفٍ واحد، صار الباشا باشا على واحدة من أغنى الباشويات في المغرب.

منذ ذلك اليوم، صارت تقاريره “الإدارية” لا علاقة لها بالمجال الترابي بقدر ما كانت تصف “سهرات ليالي الحلمية” على الشاطئ، حيث يختلط كل شيء: المال، النفوذ، والسكوت المقابل للخدمات. السلطة المحلية، بدل أن تراقب وتحمي القانون، كانت تكتفي بجمع “المعلومة” من خادمات المنازل أو من عابرات الطريق. كانت الدولة تبدو من بعيد متماسكة، لكنها في العمق كانت مسرحًا كبيرًا تُوزَّع فيه الأدوار حسب القرابة والمصلحة.

ولعل هذا المثال ليس إلا قطرة في بحر طويل من القصص المشابهة، حيث تتوارث المناصب كما تتوارث الأراضي والضيعات. فمن ابن فلان إلى ابنة علان، ومن قريب نائبٍ إلى حفيد جنرالٍ، تمتد السلسلة التي لا تنكسر. والذين يدرسون بعرق جبينهم ويحملون أحلامهم في حقائب مهترئة، يقفون عند الأبواب المغلقة يطرقونها بأصابع الأمل، فلا يفتح لهم أحد.

ورغم مرور العقود وتغيّر الأسماء والشعارات، فإن “الولد ديال فلان” لا يزال يحظى بفرصته الذهبية، و“بنت علان” لا تزال تُعيَّن في موقع حساس لأن “الدار عامرة بالمعارف”. والناس في المقاهي، في المقاطعات، في المدارس، يروون القصص ذاتها، بوجعٍ ساخر وابتسامة مكسورة:

“ما تبدّل والو، غير الوجوه اللي تبدلات.”

وفي النهاية، لعل المحسوبية في المغرب ليست مجرد ممارسة، بل أسلوب حياة متقن. من يعرف من؟ ومن يتصل بمن؟ هما السؤالان اللذان يحددان مصيرك أكثر من أي شهادة أو كفاءة. أما العدالة الاجتماعية، فهي مؤجلة إلى إشعار آخر… إشعار لا يصل أبدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.