نحب المغرب… ولكن من يبادلنا هذا الحب؟

ضربة قلم
لا أحد يعلم على وجه الدقة من المسؤول المباشر عن زرع حب المواطنة في النفوس، ولا أحد يملك خريطة طريق واضحة تقودنا إلى تلك اللحظة السحرية التي يشعر فيها المغربي بأن هذا البلد يحبه كما يحبه هو. نحن نكبر ونُلقَّن منذ نعومة أظافرنا أن حب الوطن واجب مقدس، نصطف في الطوابير المدرسية كل صباح نردد النشيد الوطني، نرفع الأعلام في الأعياد الرسمية، نصفق للخطب الحماسية، ونعيش كل لحظة كأن حب المغرب محفور في العظام. لكن في العمق، حين يسدل الليل ستائره وتختفي الشعارات، يسأل الكثيرون أنفسهم: هل يحبنا هذا الوطن كما نحبه؟
تكبر فينا الوطنية مثل وعد غامض، ولكن مع مرور السنوات تتساقط أوراق الوهم واحدة تلو الأخرى. ترى أبناء الشعب يلهثون خلف وظائف لا تأتي، وحقوق لا تُمنح، وكرامة تُستجدى، فيما حفنة من المحظوظين تسرح وتمرح بين المناصب والثروات والامتيازات. كيف نحب وطنا يُقصي أبناءه لمجرد أنهم وُلدوا في قرى منسية أو أحياء صفيحية؟ كيف نذوب عشقًا في وطن لا يرانا إلا أرقامًا في إحصائيات باردة أو جماهير يُراد منها التصفيق والتطبيل وقت الحاجة؟
لا نكره المغرب، لا ولن نكرهه أبدًا، فنحن نحب ترابه، جباله، بحره، هواءه، لغته، تفاصيله الصغيرة التي لا يفهمها إلا من عاشها. ولكننا نشعر أحيانًا أن هذا الحب يسير في اتجاه واحد. كأننا عشاق مرفوضون، نبني المعابد في القلوب لأجل من لا يكترث لنا. نظل نحلم بوطن يعانقنا حين نتعب، يسندنا حين نسقط، لا وطن يعاملنا كعبء ثقيل كلما طالبنا بكرامتنا أو بأبسط حقوقنا في الصحة والتعليم والعدالة.
صحيح أن حب الأوطان لا يقاس بمردود آنٍ أو عطاء مادي، لكن حتى في الحب المجرد، يحتاج الإنسان إلى نظرة امتنان، إلى إشارة صغيرة تقول له: أنت لست مجرد رقم، أنت لست مجرد صوت انتخابي يُستدعى كل خمس سنوات، أنت لست عابر سبيل في وطنك.
بعض المسؤولين يتحدثون عن المواطنة وكأنها تُزرع بالخطابات الرنانة والمناسبات الوطنية، متناسين أن المواطنة الحقة تُبنى في التفاصيل اليومية: في مدرسة عمومية لائقة، في مستشفى لا يُذل فيه المواطن، في قاض عادل لا يبيع الأحكام، في موظف لا يسرق الوقت والفرص، في فرص متكافئة بين أبناء الشعب الواحد.
لسنا بحاجة لدروس في حب الوطن. نحن نحب المغرب بالفطرة. نحبه حين نغني للوطن، حين نشتاق لخبز أمهاتنا، حين نذرف دموع الفخر ونحن نرى علمنا يرتفع بين الأمم. نحبه ونحن نمسح العرق في الحقول، نحبه ونحن ننتظر في الطوابير الطويلة، نحبه ونحن نغادره مكرهين بحثًا عن كرامة ضائعة في بلاد الغربة. الحب موجود، مزروع كالحلم في الجينات. المشكلة أن الوطن، أو بالأحرى الذين يحتكرون تمثيله، لا يبادلون هذا الحب بحبٍ مماثل.
هناك فجوة رهيبة بين المواطن والوطن الرسمي، فجوة لا تردمها الأغاني الوطنية ولا الشعارات. فجوة تزداد اتساعًا كلما رأى الشاب الحالم أن أحلامه تُغتال على أبواب الإدارات، كلما شعرت الأم أن ابنها ضاع بين أنقاض مستشفى مهترئ، كلما فهم العامل البسيط أن عرقه لا يُترجم إلا إلى فواتير وقروض واستهلاك.
إن المواطنة ليست شعارًا يرفع عندما تحين الانتخابات، أو حين ترتفع أصوات النقد والمعارضة. المواطنة عقد أخلاقي طويل الأمد، عقد لا يُبرم بالكلمات بل بالأفعال. وحين يشعر المواطن أن هذا العقد مُنتهك باستمرار، حين يرى أن الوطن متاح لمن يدفع أكثر أو لمن يحابي أكثر، فلا تطلبوا منه أن يحب دون شروط، ولا تلوموه إذا ما بدا الحب باهتًا ومترددًا.
في المغرب، نحن نحب وطننا رغم كل شيء. نحبه رغم خيباتنا المتكررة. نحبه رغم أن الوطن الرسمي غالبًا ما يُظهر لنا وجهًا باردًا وجافًا، لا وجه الحنان الذي نحلم به. نستمر في الحب، لأن البديل أكثر مرارة. لأن الخيانة لا تشبهنا. لأن في مكان ما بداخلنا نؤمن أن المغرب أكبر من كل من أفسدوه، وأنه في يوم ما قد يبتسم لنا كما ابتسمنا له طوال حياتنا.
لكن الحب الحقيقي، كما تعلمنا التجارب، يحتاج إلى طرفين. إلى من يشعر بك كما تشعر به. إلى من يحترم دموعك وتعبك وتاريخك وطموحاتك. إلى من لا يراك أداة موسمية، بل ركيزة أساسية لهذا البيت الكبير الذي يسمى وطنًا.
لذلك، لا نطلب الكثير، فقط أن يحبنا المغرب بقدر ما نحبه. أن يحتضن أبناءه كلهم، لا أن يتركهم يتساقطون فرادى كأوراق الخريف. أن يكون الوطن للجميع، لا لمجموعة محظوظة ترى فيه مزرعة خاصة.
يوم يتحقق هذا الحلم، سنكفّ عن طرح سؤال: كم نحب وطننا؟ لأن الجواب حينها سيكون بديهيًا، محفورًا في تفاصيل حياتنا اليومية، من دون الحاجة إلى خطب ولا شعارات ولا خطاطات إعلامية.
Very good https://is.gd/N1ikS2