مجتمع

نوستالجيا حليب فدان: إدريس البصري بين الزرواطة والبقرة

م-ص

 آهٍ على تلك الأيام، حين كان التاريخ يُكتب على عجل، بأقلام لا يجفّ حبرها إلا عند استدعاء الماضي… نوستالجيا مشوبة بالحليب والزرواطة، حين كان إدريس البصري، الرجل الذي قاد وزارة الداخلية بقبضة من حديد وأعصاب من فولاذ، يغامر في ميدان لا علاقة له لا بالقمع ولا بالانتخابات، بل بالحليب وتربية الأبقار. نعم، نفس الرجل الذي كان يُحسب له ألف حساب في دواليب السلطة، حمل ذات يوم مشروعا فلاحيا أقرب إلى سذاجة الحالمين منه إلى دهاء رجال الدولة، وقرر أن يغمس أصابعه – الملطخة بالحبر الأمني – في كأس الحليب الطازج، منتشيا بفكرة “الاكتفاء الذاتي” أو ربما استعراضا عضليا في الاقتصاد.

الملك الحسن الثاني، بطريقته التي تجمع بين الحنكة والهدايا السياسية المعلّبة، منحه ضيعة شاسعة ببوزنيقة. ليست ضيعة عادية، بل ضيعة ملكية من عيار ثقيل، فيها من البقر ما يكفي لتأسيس “هولدينغ” حليبي يُغني المغرب عن استيراد “نيدو” ورفاقه. وهكذا، دخل الوزير عالم الكالسيوم من باب واسع، مطلقا مشروعه الطموح تحت اسم “حليب فدان”، في إشارة ربما إلى تلك الهكتارات التي تحولت إلى مزرعة منتجة، ليس فقط للأعلاف ولكن أيضاً للأحلام البيضاء.

لكن، ما إن جفّ الحليب في القارورات حتى جفّت الفكرة في الواقع. “حليب فدان” اختفى كما ظهر، فجأة وبلا سابق إنذار، وكأن شاحنة “اللوجيستيك” دهسته في الطريق. لا توزيع، لا تبريد، لا خطة تسويق، فقط حليب ومزرعة ووزير يطمح للانتقال من خانة رجل الأمن إلى فلاح/مقاول من الطراز الأول. لكن السوق شيء والزرواطة شيء آخر.

الابن الأكبر، الذي وُلد وفي فمه ملعقة من نفوذ، لم يبتعد كثيرا عن خطى الوالد. أسس شركة، هذه المرة ليس للحليب ولا للزبدة، ولكن لاستيراد “خُوذات” الدراجات النارية. هل هي صدفة أن يتجه نجل البصري إلى حماية الرؤوس بعد أن قضى والده سنوات في تهشيمها معنويًا؟ ربما! لكن ما ليس صدفة هو أن المخالفات والغرامات في الطرقات تهاطلت على رؤوس من لا يرتدي خوذات مستوردة من طرف “مول المشروع”، وكأن البلاد كلها تحولت إلى سوق مفتوح لإجبار الناس على احترام الأمن… الاقتصادي العائلي.

أما حين دخل نجل إدريس البصري عالم الأعمال من أوسع أبوابه، لم يكن وحده تمامًا. كان إلى جانبه رجل إداري من الطراز القديم، مدير جهوي للضرائب آنذاك، لم يكن يخفي إعجابه ولا دعمه لابن “مول الزرواطة”. والحق يقال، لم يكن الدعم مجانيا. فاعترافًا بالجميل الذي قدّمه الرجل في تمهيد الطريق لنجل الوزير داخل أحياء المال والأعمال، سُمي المدير ـ قبل أن يضع قدماً في التقاعد ـ عاملاً على عمالتين، في فترتين متتاليتين، كأن القدر أراد له أن يذوق “عسل المخزن” على جرعتين، لا أكثر ولا أقل.

لكن الطرافة هنا، أن هذا العامل – الذي من المفترض أنه أصبح من أصحاب القرار – لم يبتعد كثيرًا عن عشقه القديم: الحسابات والمحاسبة. إذ ظل في أوقات كثيرة، يجالس سائقي الشاحنات التي كان يستثمر فيها شخصيًا، شاحنات تشتغل مع الخواص، وكان يدخل معهم في نقاشات طويلة حول الفواتير، البنزين، والمصاريف… رجل سلطة في النهار، و”قَيِّمْ الكاميوات” بعد المغرب. مشهد لا يضاهيه إلا مقاولة وطنية تحمل شعار: “نخدم الوطن ونضرب الحساب”.

لكن الأجمل في القصة، هو الوفاء الذي لا يدوم. إدريس البصري، رجل المهمات الصعبة وصديق الطفولة، الذي آوى صديقه الكيميائي وعينه مديرًا لمعمل السكر – ذلك الذهب الأبيض الذي لا يُهرّب – وسرعان ما دفع به ليصبح رئيس جامعة في التعليم العالي، ربما من باب رد الجميل أو “من باعك فاش كنت فاعل الخير؟”. وعندما دارت عجلة الزمان وخرج البصري من الحكومة، بعد سنين من القبض على أرواح الإدارة والمجتمع، حمل هاتفه واتصل بصديقه القديم، ذلك الذي رقّاه ومنحه الثقة… لكن الهاتف ظل يرن، يرن ويئن، ولا من مجيب.

آهٍ من ذاكرة الناس. آهٍ من لحظات السقوط التي تظهر فيها الوجوه على حقيقتها. الوزير القوي، الذي كان الكل يصطفّ لتحيته، أصبح فجأة بلا منصب، وبلا رد اتصال.

من شهد الواقعة، رواها لنا، دون زخرفة ولا تحامل، فقط بنبرة شخص ذاق طعم القرب والخذلان في آن واحد. ربما الحكاية ليست عن البصري فقط، بل عن كل من يظن أن للنفوذ صداقات دائمة، وأن “الكرسي” يصنع الوفاء.

ومن المفارقات التي لا تُروى إلا همسًا، أن الرجلين رحلا معًا عن هذه الدنيا، كلٌّ في زمانه ومقامه. رحلا كما يرحل كثيرون ممن مرّوا من دروب السلطة والنفوذ، يتركون وراءهم حكايات معلّقة في الذاكرة، وأسئلة لا تجيب عنها أرشيفات الدولة ولا خطب التأبين. لم يبقَ من القصة سوى أثر رجل روى ما عاشه، بنبرة هادئة، خالية من الزخرفة، كما لو كان يسلّم أمانة لا تخص البصري وحده، بل كل من اعتقد يومًا أن النفوذ يُنبت الصداقة، وأن المنصب يُنجب الإخلاص.

وها نحن اليوم نكتب عن حليب لم يُشرب، وخوذات اشتُريت غصبا، وأصدقاء أداروا الظهر عندما لم يعد هناك ما يُمنح… أما الوطن، فبقي دائما صامتا، يرقب بنصف عين، ويبتسم بسخرية ممزوجة بحليب نوستالجي، لا يسمن ولا يغني من سؤال: هل فعلا تغير شيء؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.