هشام… حين يتحول الحسد إلى مهنة والثرثرة إلى عقيدة!

يروي الراوي، ويده على خده، حكاية هشام، وليس المقصود هشامك أنت عزيزي القارئ، فاحتراماتنا محفوظة وموقعة بخاتم الجماعة لكل من يحمل هذا الاسم، أما هشامنا فهو حالة اجتماعية تستحق التحنيط في متحف الظواهر العجيبة.
في مدينة صغيرة، حيث كان الناس يعرفون بعضهم البعض لدرجة أن رائحة الكسكس تنتقل من دار لدار قبل أن تصل للمائدة، نشأ هشام، لا يشبه أحداً إلا في كونه يشبه شيئاً لا يمكن تحديده بدقة، ملامحه كرتونية… لكن ليس من نوع تلك الشخصيات التي تثير الضحك، بل تلك التي تثير الريبة، كأنك تتساءل: من أين خرج هذا؟ ومن رسمه بهذا الاستهتار؟
كبر هشام، أو بالأحرى تمدد في السن، لأن النمو شيء، والتكدس الزمني شيء آخر. كبر دون أن يكبر، وظل قلبه يئن من قلة الغسيل، لأنك كلما أردت أن تصبنه، تلفتَّ حولك تبحث عن مسحوق يُستعمل للأرواح الملوثة، فلا تجده، حتى “الجيل الأخضر” استسلم ورفع الراية.
كان هشام يعيش عالة على كل من يقبل أن يقاسمه فنجان قهوة أو نصف كلمة طيبة. يتغذى على طيبة الآخرين كما يتغذى السوس على الخشب. يتربص، يندس، ثم يمضغ سيرة هذا ويقضم كرامة ذاك وكأنها بسكويت مجاني. وإذا سمع أن أحدهم تزوج، اشترى شقة، أو حتى وجد جوارب متطابقة، أصيب بانتفاخ في روحه، لا يشفى إلا بسماع خبر سيئ.
والغريب أن هشام لا يميز بين قريب وغريب، الكل عنده سواسية في الحسد. إنه ديموقراطي في النقمة، يفرح بتعثر ابن خالته كما يفرح بسقوط جاره في الحفرة. وحين تصله الأخبار السيئة، تضيء عيونه كما كانت تضيء عيون الأطفال وهم يتابعون “ماجد” أيام الخميس. يتابع الفشل كما يتابع غيره الأخبار العاجلة، وكلما كان الحادث أليماً، كلما شعر هو بالراحة، ويصير الحديث عن مآسي الناس بالنسبة له مثل وجبة ساخنة بعد يوم طويل.
الغريب أن المدينة بأكملها كبرت وتغيرت، عدا هشام. بقي كما هو، بل أسوأ، لأن الغصن إذا اعوجّ وهو يافع، يصعب تقويمه حين يصير عكازاً. رجل يعتقد أن الحياة ملعب خصومات، وأن الناس يجب أن يفشلوا كي يشعر هو أنه بخير، رجل قد يموت في لحظة فرح عامة، لا لشيء إلا لأنه لم يجد فيها ما يُحبطه.
إنها قصة رجل يعيش على هامش الطيبين، لا يصنع خبزه، لكنه يأكل كرامات غيره بالهناء والشفاء. رجل يشبه بقعة زيت على قميص أبيض، وجوده لا يُفسر إلا بكونه خطأ مطبعي في جملة الحياة.
يقول الراوي في النهاية: لو اجتمع ألف عالم نفس ليشرحوا هشام، لاعتذروا، وطلبوا تحويل الحالة إلى قسم الظواهر الخارقة أو كتبوا عند التشخيص: الله أعلم.
وحتى لا يُساء الفهم، وجب التوضيح بكل أمانة ومسؤولية: الراوي لا يقصد هشام الذي قد يخطر ببالكم، ولا ذاك الذي تعرفونه في الحي أو مكان العمل أو مجموعة الواتساب العائلية. هشام هذا، بطل الحكاية، مجرد نكرة تسرب من هامش الحياة، لا شهرة له خارج بعض الأوساط الضيقة التي لا يُعول على رأيها أصلًا، وربما لو مر بجانبكم لما التفتّم إليه. كل تشابه في الأسماء مجرد صدفة قاسية، والنية هنا ليست إلا فضح سلوكٍ لا شخص، وعرض حالة اجتماعية وليس تشهير مجاني.