مجتمع

هل أصبح المتقاعد المغربي مجرد خردة بشرية تُركَن في زاوية النسيان؟!

ضربة قلم

تنطلق خلال أيام قليلة جلسات الحوار الاجتماعي المرتقبة، في نهاية شهر أبريل الذي يتزامن في الثقافة الشعبية المغربية، كما في بلدان أخرى، مع ما يُعرف بـ”كذبة أبريل” أو “سمك أبريل”، في إشارة رمزية إلى الخداع والمراوغة، وهو تزامن يفرض طرح أسئلة جدية حول مدى صدقية مخرجات هذه الجلسات وما إذا كانت ستتجاوز طابعها البروتوكولي والشكلي، لتلامس القضايا الحقيقية التي تؤرق فئات واسعة من المجتمع، وعلى رأسها فئة المتقاعدين، التي كثيراً ما يتم تغييبها عن طاولة الحوار الاجتماعي، وكأنها أصبحت خارج الزمن، أو كأن من بلغ سن التقاعد لم يعد مواطناً له حقوق ومطالب وانتظارات.

في العام الماضي، ورغم الضجة الإعلامية التي صاحبت لقاءات الحوار، ظلت هذه الفئة تعاني من التجاهل والإقصاء الممنهج، في وقت كانت تنتظر فيه التفاتة كريمة تُنصفها وتُعيد لها بعضاً من الاعتبار. فالمتقاعدون ليسوا مجرد أشخاص أنهوا مسارهم المهني، بل هم من وضعوا اللبنات الأساسية لقطاعات عديدة، وقدموا زهرة أعمارهم خدمة للوطن، في الإدارة، والتعليم، والصحة، والنقل، والجماعات المحلية، والمالية، والطاقة، والماء، والفلاحة، وغير ذلك من المرافق الحيوية. هم أناس اشتغلوا في ظروف لم تكن سهلة، وكانوا في طليعة من واجهوا التحولات الكبرى التي عرفها المغرب، ومع ذلك، يجدون أنفسهم اليوم في وضع هش، يعيش أغلبهم على معاشات هزيلة بالكاد تكفي لتغطية المصاريف اليومية وفاتورة الماء والكهرباء وثمن الأدوية التي تتزايد مع تقدم السن.

إن نظرة المجتمع والدولة على حد سواء إلى المتقاعد لا تزال حبيسة مقاربة اجتماعية قاصرة، تختزله في صورة شخص خرج من دورة الإنتاج، ويجب بالتالي إخراجه من الحسابات، وهو منطق غير عادل ولا إنساني، بل ومخالف لما تنهجه دول تحترم نفسها وتحترم من خدمها لعقود طويلة، حيث يُعامل المتقاعد هناك كمواطن من الدرجة الأولى، تُحترم كرامته، وتُوفَّر له تغطية صحية لائقة، وتُخصص له فضاءات خاصة، وتُشركه في رسم السياسات الاجتماعية بوصفه ذا خبرة وتراكم وتجربة.

ومن الغريب أن تتكرر في كل دورة من دورات الحوار مشاهد التهميش نفسها، وكأننا أمام سيناريو معد سلفاً لتوزيع الفتات على من هم في طور العطاء، مع تجاهل تام لمن صنعوا ذات يوم أسس هذا العطاء. بل أكثر من ذلك، يتم تحميل بعض المتقاعدين اليوم مسؤولية عجز صناديق التقاعد، في حين أن هذه الصناديق نفسها كانت لعقود تُدار دون حكامة، وغالباً ما كانت تُمَوَّل بسخاء من اقتطاعات الموظفين البسطاء، دون أن تُوفر لهم ضمانات حقيقية في المستقبل.

في المقابل، المتقاعد في المغرب يُجبر على أداء ضرائب حتى على معاشه البسيط، ويُعاني من جشع المصحات الخاصة، ومن طول الانتظار في المستشفيات العمومية، ومن غلاء الدواء، ومن العزلة الاجتماعية، ومن ضعف التقدير المعنوي الذي كان من المفترض أن يُترجم في مبادرات ملموسة، لا في خطب أو شعارات.

وإذا كنا ننتظر من جلسات الحوار المقبلة أن تُعطي دفعة قوية للقدرة الشرائية وتُسهم في تحسين الأجور، فإن ذلك لا يجب أن يتم على حساب تجاهل فئة عريضة من المواطنين الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن، ويُفترض أن يُكرَّموا بدل أن يُنسَوا. بل إن أي حوار اجتماعي لا يُدمج ملف المتقاعدين بشكل صريح وجاد، إنما يفتقد إلى البُعد الأخلاقي والوطني، ويُسهم في تعزيز الإحساس بالحيف والتهميش لدى من قدموا الكثير لهذا البلد.

وفي هذا السياق، لا بد من تسليط الضوء على طينة خاصة من المتقاعدين، وهم المتقاعدون العسكريون، ومتقاعدو الشرطة، والقوات المساعدة، الذين عاشوا سنوات من الانضباط والتضحية، في ميادين محفوفة بالخطر، دفاعاً عن أمن الوطن واستقراره، في السهول كما في الجبال، في المدن كما في الحدود، في أوقات الحرب كما في السلم. هؤلاء لا ينبغي أن تُختزل قيمة عطائهم في معاش متواضع، أو في تجاهل حكومي متكرر، بل يجب أن تشملهم التفاتة اعتراف رمزية ومادية، تليق بما قدموه لهذا الوطن، من دمهم ووقتهم وسكينتهم.

فلتكن إذن جلسات الحوار الاجتماعي هذه السنة، لا مجرد طقوس موسمية تُكرر نفسها، بل لحظة صادقة لمُراجعة جماعية تنصف من صنعوا الحاضر ويدفعون اليوم ضريبة النسيان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.