مجتمع

وزارة التربية ولاّت كتربّي على البريك دانس… وباقي ما عرفناش واش التلميذ غادي يحفظ ولا يدير سبغات فالساحة!

ضربة قلم

ذات صباح مدرسي مشمس، استيقظ التلاميذ في المغرب على حلمٍ جديد، حلم لا يشبه شيئاً من جدول الضرب ولا قواعد النحو، بل أقرب إلى إيقاع شارع في بروكلين أو حركة دوّارة في زاوية ساحة “التايمز سكوير”. نعم، لقد قررت وزارة التربية الوطنية أن “تفرك” رؤوسها قليلاً، وتدخل في منعطف فني حاد، لكنها بدلاً من التوقف عند علامة “إعادة الهيبة للمدرسة العمومية”، ضغطت على زر “البريك دانس”، وسارت بلا مرآة خلفية.

وهكذا، ومن رحم وزارة قيل إنها تئن تحت وطأة الاكتظاظ، والهدر، وسوء التسيير، خرج لنا طيف جديد اسمه: “التربية البدنية وفق إيقاعات الهيب هوب”، ولِمَ لا؟ ما دام كل شيء في هذا الوطن قابل للرقص، من الميزانية إلى المناهج، مرورا بالأمل ذاته.

المستشار خالد السطي، الممثل البارز لنقابة تُعرف بتوجهها المحافظ، لم يتحمّل جرعة “الهيب” و”الهوب” التي قُدِّمت باردة في بلاط التعليم، فقرر أن يشعل سؤالًا كتابيًا علّه يعيد بعض الجاذبية إلى… العقل. تساءل الرجل، وهو محقّ في ذلك، عن الغايات الكبرى من هذا الاختراع الوزاري، وهل صار الرقص – لا قدر الله – هو الحائط الأخير الذي نحتمي به من العنف المدرسي والهدر التعليمي، وكأن كل المشاكل التربوية كانت فقط بانتظار “تورنادو” راقص ليحلّها بلمسة خفيفة!

تصوّروا معي: تلميذ في الصف الإعدادي، لم يفهم إلى اليوم الفرق بين “إذا” الشرطية و”إذاً” الاستنتاجية، لكنه صار يضبط “البي بوي موف” كالمحترفين. زميلته، التي لم تجد مقعدًا في الفصل منذ شهرين، تعرف اليوم كيف “تجمد” في منتصف الرقصة وتخطف الأنفاس. هل هذا ما كنا ننتظره؟ هل هذه هي الجودة التي وعدنا بها في “المدرسة الرائدة”؟ أم أن الجودة تحوّلت إلى مجرد جودة صوت السماعات في ساحة المؤسسة؟

ثم يأتي البلاغ الوزاري مزركشًا بكلمات من نوع “انسجامًا مع التوجه الاستراتيجي” و”إعداد مكونين جهويين”، ويا لروعة هذه المصطلحات حين تُضاف إلى رقص الشوارع! فبدلاً من أن نسأل لماذا تدهور مستوى القراءة والكتابة، صرنا نسأل من سيؤطر أبناءنا التلاميذ في الـ”لوك سبين” و”الباك فليب”. بل وصلنا إلى مرحلة تطلب فيها الوزارة من الأكاديميات ترشيح أطر “مهتمين” بالهيب هوب. تصور أن الأستاذ صار مطالبًا ليس فقط بتدريس الضرب في الخوارزميات، بل أيضًا بامتلاك قائمة تشغيل من أفضل أغاني الراب في التسعينيات!

والأجمل أن الدورة التكوينية هذه، التي يُشرف عليها خبير دولي يُدعى “طوماس رميرس”، تأتي بشراكة مع “الجامعة الملكية المغربية للرياضات الوثيرية الرشاقة البدنية الهيب هوب والأساليب المماثلة”، اسم طويل بقدر ما هو مذهل: إذ ما هي الأساليب المماثلة؟ هل سندخل “الزٍّهْو” و”التَكشيطْ” ضمن برنامج التربية البدنية؟ هل ستُحتسب الحركات الخفيفة في الأعراس ضمن خانة الكفايات الأساسية؟

قد يقول قائل: لِمَ لا؟ فالعالم يتغير، والرقص أصبح أولمبياً، ونحن نُعدّ أبناءنا للعالم، لا للوظيفة العمومية. والردّ بسيط: هذا صحيح، لكن يا صديقي الوزير، العالم لا يُربّي أبناءه على إيقاع الرقص فقط، بل على جودة التعليم، احترام الزمن المدرسي، تطوير المعارف، وربط المدارس بالواقع لا بالخيال.

أما الحديث عن دور هذه الفنون في ترسيخ القيم؟ فحدث ولا حرج. لا شك أن “الهيب هوب” سينقل لنا تلميذًا يحترم الوقت، يقرأ ثلاث كتب أسبوعياً، ويُسعف زميله عند السقوط… طبعاً بعد أن ينهي استعراضه الصباحي. فكلما دوّخ رأسه في دوران سريع، تفتّحت خلايا دماغه واستعد للفهم العميق لمعادلات أينشتاين.

وفي لحظة صدق، يجب أن نعترف أن هذه المبادرات لا تنبع من غباء مطلق، بل من ذاك النوع الماكر من العبث المنمّق، الذي يجعلنا ننشغل بتفاصيل جانبية وننسى أن المدرسة العمومية تعاني من انهيارات بنيوية، وأن التلاميذ الذين لا يجدون مرحاضًا نظيفًا لن يستفيدوا كثيرًا من حصة “الكرامب دانس”.

كل ما نرجوه اليوم، بعد هذا الإنجاز الخارق، ألا تقرر الوزارة لاحقًا إدراج “الفلامينكو” في أقسام السلك الابتدائي، أو “السامبا” كجزء من مقرر الفلسفة. نرجو فقط أن تظل مواد التفكير قائمة، لأننا نخشى أن يأتي يوم يُطلب فيه من التلميذ أن يعبّر عن رأيه في المنهج الدراسي… عبر رقصة إيقاعية.

نعم، هذا وطنٌ يرقص، لا لأنه سعيد، بل لأنه لم يعد يجد أرضًا صلبة ليفكّر وهو واقف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.