وزارة العدل تُقيد الجمعيات وتُعقد التقاضي… هل أصبح الإبلاغ عن الفساد أخطر من الفساد نفسه؟!

ضربة قلم
في خطوة أقل ما يمكن أن يُقال عنها إنها تشبه وضع قفل فوق قفل، وتغليف الحقيقة بشريط لاصق مكتوب عليه “ممنوع اللمس”، خرجت وزارة العدل بتعديلات المادة 3 من مشروع قانون المسطرة الجنائية، وكأنها تقول بصريح العبارة: “بلغ على الفساد؟ يا حبذا لو تسكت أحسن!”
المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الذي يُفترض أنه مجرد هيئة استشارية، تحلى بشجاعة لم نجد لها أثراً عند وزارة العدل، ووقف ليقول: “واش بصح؟”. فقد تساءل، وبشكل واضح، عن مدى دستورية هذه التعديلات، وعن انسجامها مع الالتزامات الدولية للمغرب. لأنه بكل صراحة، يبدو أن وزارة العدل قد دخلت في غيبوبة قصيرة المدى عن روح دستور 2011، وتناست (أو تجاهلت عمداً) كل ما قيل عن الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة.
منع النيابة العامة من مباشرة الأبحاث إلا بعد إذن من فوق فوق؟!
ما هذا؟ هل نحن في دولة المؤسسات، أم في مسرح للدمى؟ هل أصبح التبليغ عن الفساد جريمة أكبر من الفساد نفسه؟ التعديل الجديد الذي يقيد تحريك الدعوى العمومية إلا إذا توفرت إحالة من المجلس الأعلى للحسابات أو من المفتشية أو من هيئة مكافحة الرشوة، وكأنما الفساد ينتظر دعوة رسمية مع ختم الوزارة ليُكشف عنه.
وإذا كانت الجريمة في حالة تلبس يمكن حينها تحريك الدعوى، فاسمحوا لنا بالضحك بصوت مرتفع: هل أصبح الفساد يخرج للتنزه في الشوارع ويحمل لافتة مكتوب عليها “أنا متلبس”؟ معظم جرائم الفساد تتم في الظل، بين الحواسيب والمكاتب، بحسابات مصرفية مشبوهة، وعقود من الباطن، وأرقام مفخخة في تقارير “شفافة”.
أما الجمعيات… فحدث ولا حرج.
بدل أن تُشجع وزارة العدل دور المجتمع المدني، وضعت شروطاً تعجيزية لتجعل الانتصاب كطرف مدني شبيهاً بالولوج إلى البلاط الملكي:
- يجب أن تكون الجمعية ذات منفعة عامة (ولأن نيل هذه الصفة يتطلب “رضا رباني” إداري، فحدث ولا حرج).
- وأن تكون قد وُلدت قبل الجريمة بأربع سنوات (كأن الفساد يعطي إنذاراً قبل الوقوع).
- وأن تحصل على إذن بالتقاضي من وزارة العدل نفسها! أي أن تطرق باب الجلاد وتطلب منه الإذن لمقاضاة الجلاد.
هل فقدنا البوصلة تماماً؟
إذا كانت جمعيات المجتمع المدني ممنوعة من التبليغ، وإذا كانت النيابة العامة ممنوعة من التحرك إلا بأمر سلطوي، وإذا كانت الجرائم لا تُتابع إلا إن كانت متلبسة (وهو أمر شبه مستحيل)، فما الذي تبقى من مكافحة الفساد؟ شكايات المواطنين؟ هذه تُرمى في الأرشيف أو تُحال على طاولة هيئة تُحيلها لهيئة أخرى، إلى أن تُنسى في الدهاليز.
إلى وزارة العدل نقول:
هل أنتم وزارة العدل أم وزارة “حماية الوضع القائم”؟
هل أنتم بصدد سن قوانين لمكافحة الفساد أم قوانين لحمايته من أي إزعاج شعبي؟
أليس من المضحك -والمبكي في الآن ذاته- أن يتم إقبار التبليغ عن الفساد بهذه الطريقة، في وقت تعيش فيه البلاد أزمة ثقة خانقة بين المواطن والمؤسسات؟
المغاربة لا يطلبون المعجزات، فقط يريدون ألا يُعاملوا كمتطفلين عندما يبلغون عن سرقة المال العام. يريدون عدالة لا تُكمم أفواه الجمعيات، ولا تفرض الوصاية على النيابة العامة. يريدون دولة لا تحمي الفاسدين باسم “المساطر”، ولا تضع العصي في عجلة النزاهة باسم “الإذن”.
ختاماً، نذكّر وزارة العدل، فقط إن كانت قد نسيت، أن الدول لا تُقاس بمدى كثافة النصوص، بل بمدى احترامها للقانون وروح العدالة. وما تفعلونه اليوم يشبه كثيراً كتابة “مرحباً” على باب سجن.
هل من صحوة قبل أن يضحك علينا العالم؟ أم أن وزارة العدل اختارت لنفسها أن تكون حارسة صامتة على مقبرة الشفافية؟