مجتمع

وكالة تمارة الحضرية… لا مدير، لا تراخيص، لا استثمار!

ضربة قلم

في بلد تتعالى فيه الشعارات الرسمية حول تشجيع الاستثمار وتبسيط المساطر الإدارية وتكافؤ الفرص، تأتي حالة الوكالة الحضرية للعمالة الصخيرات تمارة كحالة شاذة تستحق الوقوف عندها طويلًا، لا لكونها استثناءً منعزلاً، بل لأنها نموذج صارخ لما يمكن أن تفعله البيروقراطية المتكلسة، واللامسؤولية، وغياب الرؤية الواضحة، حين تمتزج في كيان إداري واحد، يفترض أن يكون قاطرة للتنمية لا مكبحًا لها. فمنذ أزيد من سنة، أي بعد الاستقالة الغامضة لمديرتها السابقة على خلفية ما يعرف بملف “جيا العقارية”، بقي هذا المرفق الاستراتيجي بلا قائد فعلي. لا مدير جديد، لا تفويض واضح، لا رؤساء أقسام، لا نية حتى في التعيين أو الحسم. فقط تدبير مؤقت، من مسؤولة قادمة من وكالة أخرى (الرباط وسلا)، لا تملك لا الوقت ولا التركيز الكافي لتحمل على عاتقها همّ وكالة هي في قلب منطقة تعيش تحولات ديمغرافية واستثمارية حاسمة.

تخبط واضح في التسيير، لا يحتاج المرء إلى عدسة مكبرة لاكتشافه، يكفي أن تحاور مهندسًا معماريًا واحدًا أو مقاولًا حاول استصدار ترخيص بناء، لتسمع سيلًا من القصص التي تتكرر بلا توقف: ملفات تبقى معلقة لأشهر بلا رد، قرارات بالرفض تُبنى على تبريرات لا سند قانوني لها، تقييدات غريبة تُفرض فجأة، واشتراطات خارجة عن السياق والمألوف، وغالبًا، خارج نطاق المعايير التقنية المتعارف عليها في باقي ربوع المملكة. وهنا لا نتحدث عن استثناءات أو حالات فردية، بل عن نمط اشتغال مستقر، ومتحجر، أصبح قاعدة لا شذوذا، وغموضًا لا يُفسَّر إلا بمنطق السلطة المطلقة التي لا تحاسب، بل وتمارس سلطتها التقديرية بنوع من المزاجية التي تصل في بعض الأحيان إلى الشطط الصريح.

الغريب في الأمر، أن هذه الوضعية لم تعد خافية على أحد، فقد أصبحت موضوع نقاش ساخن داخل أوساط المهندسين المعماريين، خصوصًا خلال الاجتماع الموسع الأخير لهيئة الجهة، حيث تم التعبير عن امتعاض واسع من طريقة تدبير الملفات بهذه الوكالة، وتوجيه انتقادات مباشرة لغياب المسؤول الأول، بل واتهامات ضمنية بمحاباة بعض الملفات على حساب أخرى، والتلاعب الضمني بمصير مشاريع استثمارية، يُفترض أن تكون محركًا للنمو ومصدرًا لفرص الشغل، في منطقة هي أصلاً تعاني من هشاشة اقتصادية واجتماعية على مستويات متعددة.

تمارة، التي ظلت لسنوات مرادفًا لأحياء الصفيح، والمشهد العمراني غير المنظم، تنفست الصعداء حين تم القضاء على البراريك، لكن بدل أن تتحول هذه الخطوة الشجاعة إلى نقطة انطلاق لعهد جديد من التعمير الذكي والجاذب، وجدت نفسها محاصرة بجدار من العراقيل الإدارية والتقنية المصطنعة. كأن هناك إرادة خفية – أو على الأقل لامبالاة قاتلة – لفرملة كل دينامية محتملة، وحرمان المنطقة من الاستفادة من موقعها الاستراتيجي المحاذي للعاصمة الرباط، ومن الزخم الوطني المرتبط بالتحضير لمونديال 2030.

هنا، لا بد من طرح السؤال الصريح: كيف يُعقل أن تظل وكالة حضرية بدون مسؤول رسمي لمدة تتجاوز السنة؟ هل يعقل أن يتم الاكتفاء بحلول ترقيعية، في وقت تتطلب فيه المرحلة قرارات جريئة وهيكلة جديدة؟ وهل من المقبول أن تُصبح السلطة التقديرية سيفًا على رقاب المستثمرين، بدل أن تكون أداة لحماية المصلحة العامة بتوازن وحكمة؟

نحن لا نطلب من الجهات المسؤولة أن تغض الطرف عن التجاوزات، ولا أن توزع التراخيص بالمجان، لكن ما نطلبه – وما يطلبه كل عقلاني – هو أن تُدار الأمور بالوضوح، بالقانون، بالعدالة، وبمنطق المصلحة الجماعية لا المزاج الفردي. فليس هناك مستثمر جاد يقبل أن يراهن برأس ماله في بيئة يسود فيها الضباب، وتُحسم الملفات بنَفَس ارتجالي، وتُفرَض فيها شروط متقلبة لا تستند إلى نصوص ولا إلى روح القانون.

من حق المواطنين أن يتساءلوا عن دور وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان في هذه القضية. ومن حقهم أيضًا أن يطالبوا وزيرة القطاع فاطمة الزهراء المنصوري بالخروج عن صمتها، والقيام بزيارة ميدانية تقف فيها بنفسها على حجم الخلل الذي أصبح يعيق التنمية في هذه العمالة التي يُفترض أن تكون إحدى قاطرات الجهة.

فلا شيء يبرر هذا التماطل، ولا عذر لمن يرى الخلل ويسكت، لأن من يغض الطرف عن الشطط يساهم فيه. إن كانت هناك حسابات سياسية داخلية أو ملفات قضائية عالقة تمنع التعيين، فلنُصارح الرأي العام بذلك. أما أن نستمر في تسيير هذا القطاع الحيوي بنظام “أوتو-بايلوت” بلا مسؤولية واضحة، فتلك وصفة مثالية لتعطيل التنمية، وتكريس نفور المستثمرين، وتوسيع رقعة اللاشفافية، وفتح الباب للشكوك والشائعات والتأويلات الخطيرة.

هكذا، يتحول ملف عمراني محض، إلى مرآة لخلل أعمق في الحوكمة المحلية، وإلى مؤشر عن مدى هشاشة المنظومة الإدارية التي من المفترض أن تكون حاملة لمشاريع التنمية لا مثبطة لها. وإذا كان الجميع متفقًا على أن الاستثمار هو قاطرة النمو، فإننا في تمارة، وللأسف، ما نزال نعيش في محطة الانتظار… محطة يتوقف فيها كل شيء، إلا الشكاوى، والهمس، والإحباطات المتزايدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.