مجتمعسياسة

يد تسبح ويد تذبح: عندما يصبح الفساد فناً!

ضربة قلم

كانت عبارة “يد تسبّح ويد تذبح” تمرّ على أسماعنا ونحن صغار كما تمرّ الظلال على الجدران؛ نراها ولا ندرك كنهها. نبتسم من وقعها دون أن نعي عمق ما تخفيه. نردّدها في أحاديث الكبار، كما لو كانت لعبة لغوية، دون أن نعي أن تلك اليدين ليستا مجازًا لغويًا فقط، بل هما حقيقة تتخفى بين تفاصيل حياتنا اليومية، وتنتشر كالضباب في مفاصل الدولة والمجتمع، تمتدّ من قاعات السياسة الفخمة إلى أدغال الإدارة، من خطب النقابيين الحماسية إلى جيوبهم المثقلة بالمنافع، من التصريحات الرنانة حول حماية المال العام إلى الحسابات البنكية المتضخّمة في الخفاء.

يد ترفع سبّابتها نحو السماء، تلهج باسم الحق والعدل، تدعو للشفافية والنزاهة، تحاضر في الأخلاق وتبكي على الوطن… ويد أخرى، خلف الستار، تذبح كل تلك القيم. تذبح الأمل في العيون، وتقطع الشرايين التي قد توصلنا ذات يوم إلى غد مختلف. يدٌ تظهر في الصورة وهي تهزّ رأسها احترامًا للدستور، وأخرى خلف الصورة تخرق الدستور بندًا بندًا، بلا خجل، بلا وجل، وكأن بين اليدين حجابًا لا تراه العيون البسيطة، وكأنهما لا تنتميان إلى الجسد ذاته.

نعم، كنا نظن أن السياسة فنّ الممكن، فإذا بها في بعض الأوطان فنّ التمويه. كنا نظن أن النقابة صرخة العامل في وجه الاستغلال، فإذا بها تتحوّل في يد البعض إلى ورقة ابتزاز، إلى سلم خفيّ تُغلق درجاته على من لا يدفع. كنا نعتقد أن حماية المال العام مسؤولية مقدّسة، فإذا بها تُباع وتشترى في صفقات لا تُسجّل في دفاتر الدولة، بل في هواتف “السمسار”، في أوراق تُمزّق بعد كل لقاء، في نظرات تُفهم بالغمز ولمسات تُفهم بالقبض.

هؤلاء ليسوا أشخاصًا فقط، بل عقلية، منظومة، أسلوب حياة. لا يدخلون إلى المجال العام لخدمة الناس، بل يدخلون ليقتطعوا منه قطعة يطوّعونها لمصالحهم. كل ملف عندهم فرصة، كل أزمة إمكانية ربح، كل صوت انتخابي قابل للشراء، كل بند قانوني قابل للتأويل، كل مبدأ يمكن تعليقه مؤقتًا إن اقتضت المصالح، وكل كلمة قالوها في العلن يمكن نفيها أو التملّص منها لاحقًا، لأنهم يتقنون فن التمويه، ويجيدون ارتداء الأقنعة.

ولعل ما يزيد الألم أن جزءًا كبيرًا من المجتمع، منّا، أصبح يعرف كل هذا، ولا يتفاجأ به. تطبعنا مع القبح، وصرنا نعتبر الطهران سذاجة. أصبحنا نقول عمن يرفض الرشوة أنه “ما يعرفش منين ياكل الكتف”، وعمن يتمسّك بمبدأ أنه “يعيش في عالم آخر”. هكذا، بالتراكم، تحوّلت “اليد التي تذبح” من يد خفية نخجل من ذكرها، إلى يد ممدودة بوقاحة، تتفاخر بما تفعل، يد لا تجد حرجًا في تلويث يد التسبيح، في تلويث صورة الوطن.

إن من المؤلم حقًا أن تكون “اليد التي تسبّح” مجرد ستار، زينة تُعرض أمام الناس، لتضفي قداسة زائفة على اليد الأخرى. لكنّ ما هو أشدّ إيلامًا أن تُستعمل القيم، لا فقط لتُخفى تحتها الانحرافات، بل لتُشرعن بها. أن يُحدّثك أحدهم عن الشفافية بينما يضع في جيبه رشاوى مقنّنة. أن يُخاطبك بلغة الدفاع عن الفقراء وهو يتفاوض سرًّا على مشاريع تنهش ما تبقى من أمل لديهم. أن يُقسم أمامك بأنه ضد الفساد، وهو يسهر مع الفاسدين في الليالي التي لا تصل إليها الكاميرات ولا الأقلام.

والسؤال الآن، بعد أن عرفنا، بعد أن انكشفت الأمور ولم يعد للتمويه ذلك الغطاء السميك: ماذا سنفعل؟ هل نكفّ عن التسبيح؟ هل نقطع اليد المذنبة؟ أم نكتفي بالفرجة، نتبادل النكات السوداء، ونلعن الفساد في الصباح بينما نتحايل على القانون في المساء؟

ربما الجواب ليس واضحًا، وربما الألم أكبر من أن نختصره في خلاصة. لكن ما نحتاجه اليوم ليس فقط من يُسبّح بيدين نقيتين، بل من يعترف أولًا أن يدًا منه قد تكون تلوّثت. من يستطيع أن ينظفها، لا فقط أن يخفيها. نحتاج إلى من لا يُسخّر النبل في خدمة النذالة، ولا يُلوّن الطهر ليُخفي وسخ الخداع. نحتاج إلى من تكون يداه امتدادًا لقلبه، لا أداة في يد طمعه. لأن الوطن لا يُبنى بيد تسبّح وأخرى تذبح، بل يُبنى بيدين تعملان معًا، في وضح النهار، دون قناع، دون سكين، ودون خيانة للمعنى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.