الحي المحمدي يُشعل نبراس المسرح: وفاءٌ للراحلين وإشعاعٌ للأجيال

ضربة قلم
احتفاءً باليوم الوطني للمسرح، تنبعث من الحي المحمدي، أحد أعرق أحياء الدار البيضاء، أنفاس المسرح من جديد في موعد سنوي بات يشكل محطة رمزية وثقافية بامتياز، حيث تنظم مقاطعة الحي المحمدي، بتنسيق مع نقابة المسرحيين المغاربة وشغيلة السينما والتلفزيون، وبدعم من مسرح محمد الخامس، الدورة الخامسة من المهرجان الوطني للمسرح، وذلك خلال الفترة الممتدة من 13 إلى 20 ماي 2025، بكل من المركب الثقافي الحي المحمدي والخزانة البلدية. في هذا الفضاء العابق بتاريخ فني عريق، تتجدد اللقاءات وتتشكل لحظات من الحميمية المسرحية التي تقاوم النسيان.
الدورة الخامسة تأتي هذه السنة مفعمة بالدلالات والرمزية، إذ تُخصص لتكريم روح الفنان الراحل أحمد كارس، الذي وسم ذاكرة المسرح المغربي بعطاءاته وأدواره اللافتة، وأضحى من الوجوه التي صنعت لنفسها مكانة خاصة في وجدان عشاق الركح. واختيار شعار الدورة: “بالحي المحمدي نحيي الوفاء ونشعل نبراس المسرح” ليس مجرد عبارة شعرية عابرة، بل هو تعبير صادق عن رغبة المنظمين في ترسيخ ثقافة الاعتراف، ورد الجميل لمن أسهموا في إشعاع الفن المغربي، وأيضًا في تثبيت قيم الانتماء والهوية الثقافية عبر الفن.
على امتداد ثمانية أيام، يتحول الحي المحمدي إلى فضاء نابض بالحياة، حيث يلتقي المسرحيون، جمهورًا وممارسين، حول عروض مسرحية من توقيع فرق وطنية تمثل مختلف جهات المملكة، ما يمنح المهرجان بعدًا تنوعيًا وحوارًا فنيًا متجددًا. هذه العروض ليست فقط مناسبة للترفيه أو الاستمتاع الجمالي، بل هي أيضًا منصة لطرح الأسئلة الكبرى التي تشغل المجتمع، ولمساءلة الواقع من خلال الفن، وهو ما يعيد للمسرح مكانته كمرآة للعصر، وكمجال للتفكير الجماعي والنقاش العمومي.
كما سيعرف البرنامج تنظيم ندوات فكرية تستضيف أسماء أكاديمية ونقدية وازنة، تنكب على مساءلة التحولات التي يعرفها المسرح المغربي، بين متطلبات الحداثة وهواجس الحفاظ على الهوية، بين ضرورات التجريب المسرحي، ومطالب القرب من الجمهور. وستشكل هذه اللقاءات الفكرية فضاء للحوار الحر، المفتوح على هموم الممارسة المسرحية، في زمن الرقمنة والتغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة.
وإلى جانب ذلك، تحتفي الدورة بالذاكرة الثقافية المحلية والوطنية، من خلال لحظات تكريم لعدد من الوجوه الفنية التي ساهمت، كل من موقعه، في خدمة المسرح المغربي، مما يضفي على التظاهرة بعدًا وجدانيًا وإنسانيًا، ويجعل منها عرسًا فنياً، لا يُعنى فقط بالعروض، بل بالوجوه، بالتجارب، بالتاريخ، وبحكايات أولئك الذين أعطوا للمسرح عمرهم وشغفهم.
ولعل ما يضفي على هذا المهرجان قيمة مضاعفة، هو حضوره في عمق النسيج الاجتماعي للحي المحمدي، حيث لا يقتصر أثره على المسرحيين أو النخب الثقافية، بل يمتد ليطال الفئات الشابة والناشئة، ويمنحها فرصة للاحتكاك المباشر بالفن الراقي، ولفتح نوافذ جديدة على الخيال والمعرفة. إن تنظيم هذه التظاهرة في فضاءات عمومية مفتوحة، وفي قلب أحياء شعبية، يكرّس دور المسرح كوسيلة للتربية على الجمال، وعلى التعبير الحر، ويمنح الأجيال الصاعدة نماذج حية لقدرة الفن على البناء والارتقاء. إنه درس تربوي في الانفتاح، ومشروع مجتمعي في التثقيف عبر الترفيه، ورسالة واضحة مفادها أن الفن ليس ترفًا، بل حق، وضرورة من ضرورات الحياة الجماعية السليمة.