اقتصاد

600 مليار درهم… خرجات بلا جواز سفر!

ضربة قلم: نادية بن الشرقي

في المغرب، إذا سمعت عن “فواتير وهمية”، لا تظن أن الأمر يتعلق بخدعة مدرسية أو نسيان دفع فاتورة الماء. لا، لا، نحن نتحدث عن “فن نبيل” من فنون الاقتصاد الموازي، أتقنه بعض كبار التجار بمهارة تجعل سحرة هاري بوتر يحمرّون خجلًا.

ما بين 2009 و2018، خرج من المغرب ما يقارب 600 مليار درهم، ليس في بعثات ديبلوماسية، ولا في منح دراسية للطلبة المتفوقين، بل عبر بوابة الفواتير الوهمية، تلك الورقة البريئة التي تُكتب فيها أرقام كبيرة لأشياء إما غير موجودة، أو أن قيمتها في الواقع لا تساوي ربع ما كُتب. والنتيجة؟ ضُربت خزينة الدولة في مقتل، بخسارة تقدَّر بحوالي 60 مليار درهم سنويًا.

لكن ما المشكلة؟ كل شيء قانوني على الورق!
فأنت تستورد – حسب الفاتورة – آلاف الحاويات من الموز الغواتيمالي المجفف بنكهة الزعفران، بينما في الواقع لا يصل إلى ميناء الدار البيضاء سوى شاحنة محمّلة ببعض علب الكرتون الفارغة. والفرق؟ يذهب مباشرة إلى حسابات بنكية هناك… حيث لا ضرائب، ولا قضاة، ولا تقارير برلمانية.

المسؤول نائم… ولكن من تحت المخدة

الغريب أن هذه الأرقام ليست إشاعات أو تخمينات “مواقع الصفحات”، بل نُشرت في تقارير دولية ومحلية، منها تقرير صادر عن المنظمة العالمية للنزاهة المالية، التي – ويا للمصادفة – لم يُتهم أعضاؤها لا بالعدمية ولا بخدمة أجندات خارجية بعد!
لكن رغم هذه المعطيات الموثقة، لم نرَ حملة توقيفات أو مساءلات تُذكر.
بل كأن الدولة نفسها استقبلت الخبر بابتسامة دبلوماسية وعبارة: “الله يسمح ليهم، يمكن غلطوا في التحويل”.

حاميها حراميها؟

قد يقول قائل: “لكن أين كانت الجمارك؟ وأين المراقبة المالية؟ وأين كانت مفتشية الضرائب؟”
الجواب ببساطة: كلهم كانوا هناك، لكن لم يكن أحد ينظر في الاتجاه الصحيح.
ربما لأن من ينظر كثيرًا في الفواتير الوهمية، قد يصاب بالحقيقة… والحقيقة مرّة.
ثم لنكن واقعيين: من يريد أن يفتح ملفات قد تخرج منها أسماء ثقيلة، تشارك في الانتخابات، وتتبرع في حملات التضامن، وربما تصلي الجمعة في الصف الأول؟

تبادل الخبرات… ولكن فقط في التهريب

ما لا يعرفه البعض أن بعض هؤلاء “الماهرين” في تهريب الأموال لم يكتفوا بتطوير تقنياتهم، بل بدأوا ينقلون خبراتهم لغيرهم.
أجل، هناك ورشات غير رسمية، دردشات في المقاهي الفاخرة، لقاءات في النوادي الخاصة، حيث يتعلم القادم الجديد أن يختصر طريق الاغتناء بتوقيع فاتورة وابتسامة.
هذا هو التبادل الحقيقي للخبرات: من لا يستطيع التصدير الحقيقي، يصدر الأموال فقط!

كوميديا سوداء… بلا نهاية

أن تخسر الدولة ما يعادل 6 مليار دولار سنويًا بسبب الفواتير الوهمية، ثم تستمر في دعوة المواطنين لشد الحزام، هو مشهد كاريكاتوري جدير بسلسلة من حلقات الكوميديا السوداء.
كل مرة تُعلن فيها الدولة عن تقشف، أو تُخفض من ميزانية الصحة والتعليم، يخرج سؤال ساخر من أفواه المغاربة:
“واش ما بقاوش فواتير جديدة؟ ولا تهرّب كلشي؟”

الخلاصة… والمهزلة

تهريب الأموال عبر الفواتير الوهمية ليس فقط جريمة اقتصادية، بل هو إهانة لعقل المواطن المغربي.
بينما يُحاسب البائع الصغير على عدم التصريح بمبلغ 200 درهم، هناك من “يغسل” الملايير ويخرجها في صمت تام، ثم يعود ليشتري عقارات ومشاريع ويموّل حملات انتخابية “شفافة”.

وختامًا، نقترح – مازحين طبعًا – أن يُدرج “التهريب عبر الفواتير” كمادة دراسية في كليات الاقتصاد، تحت مسمى:
“الابداع المحاسباتي في زمن الطمأنينة الرقابية”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.