سياسة

عمر بلافريج ينسحب من “حمّام السياسة”: الواقعي الذي رفض بخار الأوهام!

ضربة قلم

في وقت امتلأت فيه الساحة السياسية بالوجوه المتعبة والخطابات المكرورة، يطلّ عمر بلافريج من جديد، لا بصفته “منشقًّا غاضبًا” أو “نادمًا سياسيًا”، بل بصفته واحدًا من القلائل الذين قرروا أن ينسحبوا بكرامة حين شعروا أن السياسة المغربية تحوّلت من مجالٍ للتغيير إلى حمّامٍ تقليدي تُدار فيه التحالفات على بخار المصالح، وتُوزّع فيه الأدوار والمناشف على المقاس.

بلافريج، البرلماني السابق عن فدرالية اليسار الديمقراطي، لم يغيّر موقفه من “العزوف الاختياري”. بل أكّد في حديثٍ صريح ضمن بودكاست نظّمته مجموعة “GenZ212” على تطبيق “ديسكورد”، أنه لا يرى في المشهد الحالي ما يدفعه إلى العودة، قائلاً بوضوح لا مواربة فيه: “الأسباب التي جعلتني أغادر ما زالت قائمة، بل ازدادت رسوخاً.”

بين الواقعية والخيبة

الرجل لم يكن يوماً من هواة الخطابات الثورية الفارغة، ولا من عشّاق الصور الباهتة التي تلتقطها الكاميرات في البرلمان أثناء الجلسات الفارغة من المعنى. لقد اختار منذ البداية واقعيةً نادرة في زمن الوهم، مؤمناً بأن التغيير يبدأ من الشرح، من التواصل، من تحويل المواطن إلى فاعل لا إلى متفرّج.
خلال تجربته البرلمانية، كان بلافريج حالة استثنائية؛ سياسيٌّ يشرح مشاريع القوانين كل أسبوع على صفحاته الخاصة، يفسّر ويجادل ويجيب، كأنّه أستاذ مواطنةٍ في مدرسة بلا جدران. لكنه، وهو يروي تجربته، اعترف بأنه استنفد كل طاقاته في معركة غير متكافئة: مؤسسة برلمانية تزداد جموداً، ومشهد حزبي فقد القدرة على إنتاج الأمل.

عن اليسار الذي لم ينهض

حين سُئل عن فشل فدرالية اليسار الديمقراطي في التحوّل إلى قوة سياسية شعبية، لم يتبرأ، ولم يلقِ باللوم على الآخرين. قالها بمرارةٍ هادئة: “لم ننجح لأننا لم نُقنع الناس أننا البديل الممكن.”
فشل اليسار، في نظره، ليس في الأفكار، بل في القدرة على بناء جسورٍ بين المثقف والشارع، بين الخطاب والنضال الميداني. ومع ذلك، لا يخفي خيبة أمله من المناخ العام الذي لم يُتح لأي صوتٍ نقدي أن يعيش دون تضييق. يذكر الصحافيين المعتقلين، وعلى رأسهم عمر الراضي، كرمزٍ لمرحلة اختارت فيها الدولة – كما قال- “العدمية” طريقاً للتعامل مع المستقلين، بدل الحوار والانفتاح.

دعوة إلى انفراج حقيقي

وفي زمنٍ تُغلف فيه الشعارات بمساحيق “التحول الكبير” و”المغرب الجديد”، يدعو بلافريج ببساطة إلى “العودة إلى الإنسان”.
يطالب بعفو عام يشمل معتقلي حراك الريف وكل الشباب الذين عبّروا عن غضبهم في فضاءات التواصل، مؤكداً أن الانفراج الحقوقي هو السبيل الوحيد لاستعادة الثقة بين الدولة والمجتمع.
الثقة، كما يراها، لا تُبنى بالمهرجانات ولا بالشعارات، بل بالعدالة والحرية والكرامة. الصحافة، في نظره، ليست خصماً للسلطة بل مرآتها. والسكوت الذي يُفرض على الأقلام الحرة هو في الواقع ضربة للبلاد كلها، لا للصحافيين وحدهم.

جيل زد.. الصفحة الجديدة

ربما أجمل ما قاله بلافريج في حديثه هو إيمانه بجيلٍ جديد، جيلٍ لا تشده حبال الماضي ولا تقيده شعارات آبائه. جيل زد، كما وصفه، ليس جيل “اللا انتماء” كما يحلو للبعض أن يقول، بل هو جيل يرفض التمثيليات السياسية الرديئة، ويسعى إلى كتابة نص جديد لمستقبل هذا الوطن.
قالها بابتسامة واثقة: “ما يفعله شباب جيل زد اليوم هو إشارة قوية بأن وقت التغيير قد حان.”

الواقعية النزيهة في زمن الرماد

عمر بلافريج لم يكن يوماً بطلاً أسطورياً، ولا داعيةً سياسياً يبيع الوهم على الشاشات. كان وما يزال صوت الواقعية النزيهة في بلدٍ يعشق التزيين اللفظي.
انسحابه لم يكن هروباً من المسؤولية، بل إعلاناً عن موقفٍ فكري عميق: حين تتحوّل السياسة إلى لعبة مغلقة، فإن أصدق فعل سياسي هو أن ترفض المشاركة فيها.

في النهاية، يبقى بلافريج كما عرفه كثيرون: ذلك اليساري الهادئ الذي رفض الغرق في طقوس الحمامات السياسية، وفضّل أن يخرج منها نظيف اليدين، محتفظاً ببقايا الأمل في جيلٍ قادمٍ قد يفعل ما عجز عنه السابقون.

فهل سينجح جيل زد في كسر هذا الجمود التاريخي؟ أم أن البلاد ستظل تدور في حلقة البخار ذاتها، حيث تتبدل الوجوه لكن يبقى الحمّام كما هو؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

أنت تستخدم اضافة Adblocks يجب تعطيلها.